لا شك في أنّ العقل الشرير لـ«داعش» هو الذي يقف وراء مذبحة سيريلانكا. فقد أرادوا الانتقام من البابا الكاثوليكي الذي جاء إلى الإمارات والمغرب، وأصدر وثيقة الأخوة الإنسانية مع شيخ الأزهر، ووثيقة القدس مع الملك محمد السادس. الدواعش لا يتصورون الإسلام والمسلمين جزءاً من العالم، وشريكاً فيه، ومنتمياً للقيم الإنسانية الكبرى التي تحتضنها الديانات والحضارات. لقد أنجز المسلمون حضارةً كبرى، وهم يتشوقون لاستئناف القول والفعل الحضاري. وكلُّ تلك السيرة هي غير سيرة «داعش»، بل ومناقضة لها.
لقد تلقى الدواعش ضرباتٍ موجعة في العراق وسوريا، ويريدون ردَّها ضد الذين قاتلوهم بالشدة ولم يتهاونوا في أمنهم ودينهم. يريدون العمل بالتحديد ضد الأميركيين والأوروبيين، الذين يعتقد المجرمون ذوو العقول الوحشية أنهم رمز المسيحية وجوهرها، وضد العرب الخليجيين الذين يتصدرون العمل ضد الإرهاب، لذا يأتي عملهم الخسيس ضد الكنائس الكاثوليكية في سيريلانكا، ويحاولون في الوقت نفسه التفجير في السعودية التي قابلتهم بحربٍ وقائيةٍ للردع والاستئصال.
الكاثوليك في سيريلانكا طائفة صغيرة. وقد عانوا مثل المسلمين من الحرب الأهلية الفظيعة التي دارت بين الإثنيتين الكبيرتين في البلاد خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وما كادت الجراح تندمل حتى فغرت فاها من جديد. فقد اختارها الدواعش، للضعف وإمكان الاختراق، وضربوا بذلك إمكانيات عيش الآخر والمسلمين القلة في تلك البلاد.
وهكذا فالرسالة مثلَّثة: محاولة ضرب إمكانيات العرب والمسلمين للخروج من المأزق إلى العالم الأوسع، ومحاولة ضرب انفتاح البابا الكاثوليكي على المسلمين، والانتقام للذي أصابهم في سوريا والعراق، حيث سقطت دولتهم، وصاروا مسبيين كما سبوا نساء وولدان الأقليات المستضعفة في هذا الشرق.
إنهم يريدون إثبات أننا لا نستحق العيش في هذا العالم، وأن العالم نفسه لا يستحق أن يعيش. من يستحق العيش؟ بالطبع ليس الدواعش الذين يقولون بإدارة التوحش في زمن التمكين. والتمكين لا يكون لهذه الجماعات الإرهابية، لأنه يعني إلغاءً للعرب والإسلام من خريطة اليوم والغد.
ولنتذكر عام 2014 عندما خرج هؤلاء القتلة مثل «دابّة الأرض» إحدى علامات يوم القيامة، فاجتاحوا الزرع والضرع، ونشروا القتل الذريع للإخضاع والإرعاب، وأقاموا الدويلة التي لو بقيت لما بقي احترام للعرب والمسلمين.
وفي زمن المحنة والكرب، وعندما كان العرب، والخليجيون في طليعتهم إلى جانب العالم الذي تعرض لاختبارٍ كبيرٍ، يكافحون هذه الظاهرة المفزعة، تقدم باتجاههم البابا فرانسيس طالباً المودّة وصنع الخير المشترك. وهكذا بدا أنّ للكفاح وجهين: وجه مصارعة قوى الشر، ووجه صنع البدائل لعالمٍ تتشارك فيه الديانات الكبرى لنشر قيم وممارسات التسامح والسلام والعدل.
لسنا اليوم في خير حالاتنا. أما الأوربيون واليابانيون فكانوا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في أحسن الأحوال. وقد ظهرت لديهم -رغم ذلك- تنظيمات إرهابية مثل «بادر- ماينهوف»، و«الجيش الأحمر»، و«الألوية الحمراء».. وقد قتلوا الأبرياء بحجة مكافحة الرأسمالية، ونشر العدل الماركسي في العالم. وقد أنهى العالم تلك الظاهرة التي لا تكاد آثارها تنتهي في أميركا اللاتينية إلى اليوم.
لسنا في خير حالاتنا نحن العرب. لكننا نعلم بحق الدين، وبحق الأخلاق، وبحق استحقاق البقاء في هذا العالم، أنه إما نحن بجماعتنا الكبرى، وإصرارنا على العيش والأمن والحرية، وإما جماعات الظلم والظلام والإظلام، والشر المجنون والتافه في الوقت نفسه.
إنّ نموذج أوروبا واليابان مع إرهابييهما يستحق الاعتبار. صحيح أنّ الإرهاب لا يمكن تجنبه أحياناً. إنما ينبغي عدم الخضوع له وعدم التهاون معه، والأهم: عدم تمكين المجرمين من إنشاء أجيال جديدة أو تربيتها. والخشية اليوم أنّ هناك أجيالاً جديدةً قد تكون في طور التكوين. نعم، أظهرت التحقيقات في سيريلانكا أنّ من المتطرفين العنيفين أخوين وامرأة، جُنّدوا لـ«داعش» في الفترة القريبة الماضية. لذا لا يقتصر الأمر على جيل الخراب والتخريب، بل هناك شر قادم، إن لم نتشارك مع العالم من أجل القطع من الجذور.