- كروائي كيف تقيّم المشهد الجزائري بعد الحراك الشّعبي؟
* من المُبكر أن نقيّم حدثاً لا يزال طازجاً. الأحداث تتسارع والحراك لم ينته. جدران تتهاوى ومطبّات تنبت كلّ مرّة، وتحيلنا إلى مُراجعات. مع ذلك، بالإمكان الإشارة إلى بعض المكاسب المهمّة، من بينها استعادة الجزائريين للفضاء العامّ. فطيلة عقود كانت الميادين مطوّقة بالأمن والإسمنت والمتاريس أحياناً، والتّجمهر محرّماً، اليوم بات أمراً عفوياً. في الماضي كنّا نعيش الحياة سراً لا في العلن، اليوم استرد النّاس حقّهم في الخروج إلى الشّارع. المرأة أيضاً تحررّت من طوق الحرمة، لم تعد استثناءً بل ضرورة. إلى جانب ذلك، هناك قاموس لغوي جديد يتشكّل، كلمات تمّحي، وأخرى تطفو على الألسنة، إنه قاموس يحتفي بالحرية، يلتقط مفرداته من الشّعارات واللافتات وحماسة الشّباب، في انتظار كيف سيصير شكله النّهائي في ما بعد.
- في البداية كان هناك نوع من التردد، هل كان ثمة خوف لدى المسرحيين والمثقفين من موجة اغتيالات كالتي حدثت على أيدي الجماعات المسلحة في منتصف التسعينات؟
* الجزائر أرض خصبة للشّائعات. لم يكن هناك تردّد، بل سوء تقدير، في البداية، أو بالأحرى ضباب يغشى العيون. هذا أمر يخصّ فئة قليلة من المثّقفين، لأن الغالبية كانت مستعدّة أن تبيت في العراء من أجل التّغيير. راهنت السّلطة السّابقة على ترسانة إعلامية تخصّصها هو التّعتيم، وتبنّى مثقفون إعلام السوشيال ميديا كبديل لها. استهداف المثقفين جسدياً انتهى منذ عقدين، لكن التّخويف والتّرهيب لم ينتهيا. فزاعة عودة التّطرّف باتت نكتة، وتجازوها الزّمن.
- ما الذي يميّز الجزائر عن باقي البلدان العربية في حراكها؟
* لكلّ مجتمع خصوصياته والمقارنات تظلّ نسبية. قد يعلّق البعض بأن ما يحصل جاء مباغتاً، لكنه في الحقيقة تتمة لثورات سابقة، هي جولة جديدة من ثورات شعبية ضدّ انحرافات الحكم، يمكن أن نؤرّخ لها بدءاً من 1980، وربيع الأمازيغ، من دون أن ننسى ثورة أكتوبر 1988 الأهمّ، التي غيّرت وجه البلد ونظام الحكم آنذاك، ثم 2001، والحراك الدّاخلي في محافظات البلد التي نادراً ما كانت تحظى باهتمام الميديا، كلّ هذا في سلسلة متتابعة في بلد تعوّد على الثّورات منذ 1954. ميّزة لامعة لا نغفل عنها في حراك الجزائر هي طابعه السّلمي، فأن نزيح نظاماً عمّر 20 سنة، من دون إراقة قطرة دمّ واحدة فذلك انتصار لا نقلّل من قيمته، من دون أن نغض الطّرف عن انحرافات أمنيّة حصلت، لكن في الإجمال حافظ الحراك على برودة أعصابه.
- في الحراك الشعبي، أي حضور للمثقفين، هل هناك فئة منهم تؤيد النظام السابق أو المتنحي؟
* من السّهل القول إنه حراك سياسي، لكن بعد نظرة متأنية، وبالعودة إلى كرونولوجيا الأحداث في السّنين القليلة الماضية، نجدّ أن الثّقافة كانت شريان الأحداث الكبرى. الرّئيس المستقيل أنفق ملايين الدّولارات على الثّقافة، ليس خدمة للبلد، بل للتّرويج لصورته، حوّل الفعل الثّقافي إلى مرادف للفولكلور، ترفع فيه صوره ويذكر فيه إسمه. وفي غياب معارضة سياسية، تشكّلت المقاومة في الأوساط الثّقافية، في السّينما والموسيقى والأدب والمسرح والفكر. فعدد الكتب والأفلام والأغاني التي مُنعت في زمن بوتفليقة يتجاوز ما منع منذ الاستقلال. كما أن مبايعيه كانوا يراهنون على الثّقافة لإنجاح ترشيحه لعهدة خامسة، بالاستعانة بمغنين وكتّاب ونسب اكتشافات عملية تاريخية له. لقد كانت عيونهم تحوم حول الثّقافة لإقناع النّاس بنزواتهم. رداً على الجزء الثّاني من السّؤال، لا أظنّ أن مثقفاً جزائرياً حراً يُساند نظاماً بُني على الرّقابة وتكميم الأفواه وسجن صحافيين ومنع ندوات والتّضييق على الحريّات. مع ذلك نقرّ بأن صفة مثقّف يمكن أن تُشترى، في الجزائر، من أولّ دكّان على الطّريق، مما أدخل البلد في فوضى ثقافية سابقاً، والاستثناءات تؤكّد القاعدة أن المثّقفين الملتزمين لم يغيّروا مواقعهم منذ وصول بوتفليقة إلى الحكم في 1999.
- هل ثمة تخوف من تكرار سيناريو مصر في الجزائر؟
* لا يمكن إسقاط تجربة على أخرى بهذه السّهولة. وكما أسلفت الذّكر الحراك يكبر بهدوء، ولا يملّ من مراجعة مطالبه، ومن تكرارها إن لزم الأمر، والدّفع بالأحداث لنيلها. والأكيد بما أن النّاس استأنسوا الشّارع، فمهما كانت هوية الرّئيس المقبل أو انتماؤه، فسيظل تحت النظر، وأي انحراف سيُخرج النّاس من بيوتهم، من جديد، للضّغط عليه وتصحيح المسار.
- هل تفكر في استلهام ما يجري الآن في رواية جديدة؟
* بإمكان روائي أن يكتب عن حدث ساخن وينجح في ذلك، كما فعل ماتياس إينار في رواية "شارع اللصوص". في المقابل، من أجل فهم صائب لما يحدث في الجزائر الآن، نحتاج إلى العودة للتّاريخ لتشريح أسباب الغضب الجزائري، ومن خلال التّفتيش في الأرشيف سنجد أحداثاً مُشابهة وقعت وانتهت. بالتّالي، ليس ضروريا أن نهرول للكتابة عن اللحظة الآنية والقبض على جمرة الأحداث في نصّ، بل يمكن أن نجد صورة مكتملة عنها في الماضي، ونكتب بروية وصبر وتأن. برأيي، السّؤال الأهمّ: كيف وصلنا إلى هذه اللحظة؟ وليس ماذا يجرى حالياً؟
محمد حجيري