يكاد اللبنانيون يفشلون في امتحان المواطنة بوجود قادة مطلقي الصلاحية في طوائفهم، ولا حدّ لسلطة أيّ من هؤلاء سوى جدار الطائفة الأخرى. وفي الأزمة الاقتصادية المتفاقمة ووضوح العجز عن مواجهتها، نرى مآل الشراكة اللبنانية والاعتراف بحرية العبادة حين يتحوّلان إلى ستاتيكو طوائفي يتحكّم بالمكان ويعبر الزمان.
في هذا الكلام نوع من المغالاة إذا أخذنا في الاعتبار أن لبنان لا يزال بلداً معترفاً به عربياً ودولياً، وأن صداقات ومصالح متقاطعة تحافظ عليه من خارج الحدود لاعبة بين الوقت والآخر على تناقضاته الداخلية، على رغم يقينها أن قادة الطوائف يبدّلون تحالفاتهم كما يبدّلون ربطات العنق. مع ذلك يجتمع بهم مندوبو دول وازنة، ودائماً هناك سبب للاهتمام: أن لبنان يحاذي إسرائيل التي تقوى بقدر ما يضعف جيرانها، ويجاور سورية التي انفضح نظامها كما انفضحت معارضاتها حين سلّموا جميعاً قيادهم للأقوياء خارج الحدود، وامتنعوا حتى عن اعتراف متبادل بين بشر متجاورين.
حين أعلن ديفيد بن غوريون دولة إسرائيل عام 1948 كان قد مضى على استقلال لبنان خمس سنوات. ورأى لبنانيون آنذاك أن الخطر على وطنهم قد بدأ من تل أبيب، لأن إسرائيل آيلة إلى دولة يهودية تستغل مآسي اليهود في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية وما قبلها لتؤويهم بعيداً من "الأغيار- الأعداء"، في حين أن لبنان بلد الاعتراف المتبادل بين اتباع أديان المشرق وطوائفه، وفي هذا الاعتراف بحرية العقيدة ما يشبه ديموقراطية من نوع خاص.
بهذا المعنى انتصر النموذج الإسرائيلي على النموذج اللبناني منذ انخراط اللبنانيين في حرب أهلية مسلّحة بين عامي 1976 و1990 وإن تخلّلها عدد من الهدنات.
ولم تكن مقنعة أعذار اللبنانيين بمحاربة هيمنة المنظمات الفلسطينية المسلحة أو مناهضة الاحتلال السوري بتغطية عربية ودولية كانت ترى في الجندي السوري على حواجز الطرق اللبنانية مجرد شرطي لبناني يلبس زياً عسكرياً سورياً ليستطيع تطبيق القانون. كما ليس مقنعاً احتكار "حزب الله" مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وفق أيديولوجيا صارمة تتصل بحكم رجال الدين في إيران. وقد وجد اللبنانيون ويجدون عنتاً في الجمع بين تأييد المقاومة ورفض أيديولوجيتها واحتكارها، لذلك صارت غالبيتهم تناهض "حزب الله" علناً، خصوصاً مع انخراطه في الحروب السورية في حمص وما بعد حمص، وتتقبّل ما يقال عن انخراطه أيضاً في حروب اليمن دفاعاً عن الحوثيين الذين يفتخرون بمنع حرية العبادة في أماكن سلطتهم ويسكتون عن تسهيلهم هجرة يهود صعدة إلى إسرائيل.
ليس للبناني وجود خارج طائفته، لذلك كانت الهجرة منذ الحرب الأهلية الأولى عام 1840، فضلاً عن أسباب أخرى أمنية واقتصادية. وحتى في أماكن الهجرة تحضر الطائفية في لقاءات اللبنانيين، لذلك نشأت ظاهرة ناكري الذات الذين يبتعدون عن أبناء وطنهم لئلا تصيبهم سهام الطائفية. قال أحدهم إنه يقبل لقاء لبناني واحد أو لبنانيَّين اثنين، حتى إذا صاروا ثلاثة يتركهم فوراً مخافة جدال طائفي عقيم حملوه مثل مرض من أرضهم الأم.
لبنان الوطن لا يحيا ولا يموت، محظوظ باهتمامات عربية ودولية تحاول الحفاظ على وجوده، فيما قادة الطوائف متمسكون بكانتوناتهم البائسة التي تدرّ مالاً من عرق مواطنين لم يحظوا بفرصة للهجرة أو أنهم رفضوها متشبّهين بالأشجار الراسخة.
ولا يشبه لبنان غيره من الأوطان. إنه نسيج غرائبي طارد للمواطنين الطبيعيين. وحين نحاول تعريفه يأتي مثل هذا السياق الغرائبي: إنه الضمائر في الثلاجة. التعصّب والتحامل. لبنان موعد مرة كلّ سنوات. يمضي العمر بلا انتباه. لبنان خوفك وخوفهم. مدرسة اللاشيء ومدرسة الدروس الصعبة. موعظة الجسد وسخافة الإنشاء. ليل البيوت. المدن بلا كهرباء. لبنان بلا معارضة، بلا لبنان. شيزوفرينيا الأحاديث اليومية. الميليشيا لكل الأزمنة وكل البيارق. لبنان الجوع الحقيقي والجوع المقنّع. لبنان التخمة الفاجرة والفقراء يأكلون الحماسة. لبنان القيادات المبحوحة والمدافع الصائحة. لبنان اهتراء القيادات الطبيعية من كثرة الاستعمال. قيادات جديدة بلا ذاكرة. لبنانان بل ثلاثة بل أكثر بلا لبنان.