يوم الأربعاء الماضي، أنهى وزير الاتصالات رئيس الهيئات الاقتصادية اللبنانية محمد شقير، اجتماعاً عقده ممثلو هذه الهيئات في بيروت وجبل لبنان، للبحث فيما يدور من نقاش ويثار من جدل حول الموازنة الجديدة، التي تعمل الحكومة لكي تستجيب ولو نسبياً لشروط «مؤتمر سيدر»، بإعلان مثير قال فيه، ليس في وزارات الدولة اللبنانية وإداراتها ومصالحها، نظام وظيفي واحد ومتساوٍ، وإن كل مسؤول يوظّف كما يرى ويجتهد أحياناً، وهذا يعني عملياً أن الدولة في النهاية مجرد عمياء تدفع من صندوق مفخوت أصلاً!
والخلاصة كما يقول بالحرف: «يجب إلقاء هذا النظام الوظيفي في الزبالة»!
هل من مبالغة في هذا؟... قطعاً لا، وخصوصاً أن لبنان غارق، مسؤولين وشعباً، منذ ثلاثة أشهر في حوار أو بالأحرى في جدل الطرشان والعميان، الذي يغلب عليه ترداد ببغائي لشعار: محاربة الفساد ووقف الإهدار والفوضى، بعدما تجاوزت قيمة الدين العام الـ86 مليار دولار، ثلثها على قطاع الكهرباء، الذي لا يزال يكبد الخزينة الخاوية ملياري دولار في السنة، في حين أن مبلغ الـ30 ملياراً الذي ذاب في زواريب الكهرباء، كان يمكن أن يضيء القارة الأوروبية!
كان محمد شقير قبل أن يدخل جنة الحكم، قد قال بالحرف «حضّروا ورقة النعوة» فالخلافات على تشكيل الحكومة الجديدة التي استمرت تسعة أشهر، أثارت ريبة واستغراب الدول المانحة الـ35، التي شاركت في «مؤتمر سيدر»، وقررت دعم لبنان بما يزيد على 11 ملياراً من الدولارات هباتٍ وقروضاً، بينما كان الرئيس نبيه بري يحذّر من «أن بقاء الوضع على ما هو عليه أخطر من خطير»، ثم جاء كلام وزير المال علي حسن الخليل صادماً عندما قال إنه «ليس في الخزينة ليرة واحدة، نحن على الحديدة».
كل الأحاديث الآن تركز على أمر واحد، وهو كيفية وضع موازنة تقشفية تتجاوب مع الشروط التي وضعتها الدول المانحة في سيدر، وخصوصاً عندما تبيّن ما لا يمكن تصديقه، وهو بعدما طلبت لجنة المال في البرلمان من الوزارات والدوائر والمصالح تزوديها بقوائم موظفيها، جاءت الصدمة فاضحة ومزدوجة: أولاً أن دولة الخمسة ملايين نسمة لا تعرف عدد موظفيها، ولا تملك إحصاءً يحدد عدد الموظفين والمتعاقدين والمياومين الذين يتجاوزون 320 ألفاً، والصين بلد المليار ونصف المليار يعرف كل منهم متى ينام ومتى يصل إلى عمله، والأدهى أن الدولة اللبنانية التي كانت قد اتخذت قراراً بعدم التوظيف، قام عدد من وزرائها الميامين أخيراً بتوظيف 10 آلاف عشية الانتخابات النيابية الأخيرة!
هنا أيضاً تفتقت فضيحة جديدة، تضاف إلى ما يسمى فضيحة سلسلة الرتب والرواتب، التي كان قد تم إقرارها وسط مزايدات شعبوية سياسية، دون احتساب مسؤول لمصادر تمويلها، ليتبيّن بعد أشهر أن الفروقات المطلوبة بين تاريخ توقيعها وسريان مفعولها زادت بنسبة 30 في المائة، ثم جاءت قصة العشرة آلاف موظف جديد لتضاعف المشكلة، حيث لا تستطيع الدولة التخلي عنهم، ولا تقدر الموازنة على تحمل أعباء رواتبهم.
قبل أربعة أشهر وصل إلى بيروت السفير الفرنسي بيار دوكان الذي عيّنه الرئيس إيمانويل ماكرون لمواصلة تنفيذ مقررات سيدر، وجال على المسؤولين وأبلغهم ما كانوا قد سمعوه من السفير الفرنسي في بيروت برونو فوشييه، وهو ضرورة الإسراع بتشكيل الحكومة ووضع برنامج إصلاحي يعيد التوازن تدريجاً إلى الموازنة اللبنانية، لكن دوكان غادر بيروت تاركاً رسالتين:
الأولى أن الدول المانحة في سيدر أنجزت ما عليها، وهي مستعدة للمباشرة فوراً في تنفيذ المشاريع التي يقترحها لبنان، والتي يجب طبعاً إقرارها في موازنة تقوم على سياسة إصلاحية حقيقية، والأخرى أن لبنان لم يقم بالدور المطلوب منه، وهو ما قد يهدد بصرف المبالغ التي رصدت له في دول أخرى تنتظر، لكن المفجع أكثر في كلامه أنه لمس محاولات تملص عند بعض المسؤولين والسياسيين الذين قابلهم، من متطلبات البرنامج الإصلاحي، ومحاولتهم إقناعه بتحويل مبالغ القروض التي رصدت للبنان هبات تدفع مباشرة؛ وهو ما دعاه إلى الهمس صراحة لجمع من الصحافيين، «أظنّ أن لبنان بلد غير قابل للإصلاح»!
ما يجري في بيروت الآن منذ المباشرة بدرس الموازنة الجديدة، التي يفترض أن تحول دون إفلاس البلد، قبل أن تستجيب لشروط سيدر والبنك الدولي، الذي أعلن استعداده لدعم لبنان بمبلغ أربعة مليارات دولار، لكن في سياق برنامج إصلاحي فعلي، هو قتال سياسي بطريقة استعراضية، على طريقة وأسلوب وضع موازنة التقشف الإصلاحية.
من أين يجب أن يأتي التقشف، من خلال مروحة جديدة من الضرائب والرسوم التي يتبارى المسؤولون في القول إنها لن تطال الفئات الفقيرة والمتوسطة، وهذا ليس مضموناً بالضرورة، فالدولة التي لا تعرف عدد موظفيها لن تميز بين الفقير منهم والميسور، أم من خلال ما فعله مهاتير محمد مثلاً في ماليزيا باسترجاع المال العام الذي نهبه السياسيون والزعماء، وهو تقريباً ما يجري الآن في السودان والجزائر؟ في لبنان لا يمكن الذهاب إلى الرؤوس الكبيرة التي نهبت الدولة، أولاً لأسباب تتصل بالغطاء الطائفي والمذهبي، الذي يحول دون هذا ويصل حتى إلى حد تهديد الاستقرار العام، وسبق للراحلين الرئيس شارل حلو والرئيس الشهيد رفيق الحريري، أن حاولا تطبيق الإصلاح وأفشلتهما طبعاً غيرة الدين والطوائف، وثانياً لأن هناك دائماً في الجوار الجغرافي من يريد إفشال النظام اللبناني عبر إغراقه بالفاسدين طمعاً واستفادة!
في الأسبوع الماضي قال وزير المال علي الخليل وهو يعرض جانباً من إصلاحات مقترحة في الموازنة الجديدة، إن هناك اتجاهاً إلى اقتطاع الرواتب الكبيرة بنسبة تصل إلى 15 و20 في المائة، وإلى إلغاء مبدأ الشمولية فيما يسمى «التدبير رقم 3»، الذي يعطي كل العسكريين على الجبهات وفي المكاتب، الحق في تعويض لنهاية الخدمة يحتسب السنة ثلاث سنوات، أي أن من يخدم 40 عاماً مثلاً ينال تعويضاً عن 120 عاماً، إضافة طبعاً إلى راتب تقاعدي ومخصصات إضافية؛ وهو ما أثار جدلاً يتصل بالسياسة أكثر من الحسابات الموضوعية والعادلة!
وكشف أيضاً على سبيل المثال عن أن مرفأ بيروت تتسلمه منذ عشرين عاماً وأكثر، إدارة خاصة مؤقتة توظف وتقبض، لكنها لا تدفع للدولة سنوياً سوى مبالغ ضئيلة، وأحياناً ولا قرشاً، بينما تبلغ مداخيل المرفأ 800 مليون دولار سنوياً، وأن شركات المياه هي إدارات مستقلة عن الدولة كلياً، تقبض وتدفع الرواتب وتقرر الزيادات وتجبي الفواتير وتقرر الزوائد... وهذا غيض من فيض!
للدول الـ35 التي شاركت في مؤتمر سيدر سفراء ومندوبون في بيروت، وبالطبع كلهم سمعوا وزير المالية يكشف على الهواء، عن أن في لبنان مئات من الموظفين يعملون في أكثر من إدارة ومجلس إدارة، وأن راتب الواحد منهم يصل أحياناً إلى 100 مليون ليرة شهرياً، أي 75 ألف دولار، ولست أدري ماذا سيقول ماكرون مهندس «سيدر»، عندما يقرأ هذا وهو الذي يبلغ راتبه الشهري 17 ألف دولار، أو دونالد ترمب الذي يبلغ راتبه 33 ألف دولار، كي لا أتحدث عن شي جينبينغ وراتبه الشهري البالغ 1700 دولار! وما قيل في «باريس 2» عن الإصلاح والتقشف يتكرر الآن حرفياً: محاربة الفساد ووقف السرقة والإهدار والسطو السياسي على المال العام، لكن كيف في بلد غير قابل للإصلاح فعلاً؟