لم تجد هانازانت، في عام 1915. سبيلاً للخروج من الحفرة المكتظة بالدماء والجثث، سوى أجساد القتلى الأرمن ممن ساقهم العسكر العثمانيون إلى الإعدام في تلك الحفرة، كما روت لأحفادها. تسلقت جثثاً لم تعرف وجوهها، بعدما نجت من الموت بأعجوبة، وبدأت رحلة الهروب إلى سوريا سيراً من ولاية أضنة، حيث قتل مئات من أبناء قوميتها.
وتمثل رحلة هانازانت، واحدة من مئات آلاف قصص النجاة والهروب من المجازر التي ارتكبها العثمانيون بحق الشعب الأرمني في عام 1915، وتسببت بمقتل مليون ونصف المليون أرمني، أعدموا وقتلوا ذبحاً ونُكّل بجثثهم، وتعرضت نساؤهم للاغتصاب ولاجتثاث الأعضاء، كما يقول الأرمن، نقلاً عن أجدادهم الذين نجوا من المذابح وعاشوا في لبنان وسوريا والعراق.
ينقل الأحفاد الأحداث بكثير من التأثر، لدرجة أن نائباً لبنانياً من أصول أرمنية، يرفض تذكر الوقائع «لشدة تأثيرها»، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إن «مشاهدة فيلم يتناول قصة الإبادة الأرمنية، أو استعادة ما نقل الشهود عن الإبادة، تجعل مشاعرنا تفيض مثل يتيم ماتت أمه، وتُسمِعه أغنية للأم».
ويحيي الأرمن في الرابع والعشرين من أبريل (نيسان) من كل عام، ذكرى الإبادة، بالنظر إلى أنه في هذا التاريخ، صدر أمر عثماني باعتقال جميع المثقفين الأرمن والعاملين في السياسة، وإعدامهم شنقاً، رغم أن جذور «التطهير العرقي» لم تكن في 24 أبريل 1915، بل بدأت قبل ذلك بأكثر من نصف قرن.
وتصف أرمينيا عمليات قتل مئات الآلاف من الأرمن على أيدي قوات الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، بالإبادة، وهذا ما تنفيه تركيا. واعترفت برلمانات 20 بلداً والبرلمان الأوروبي والفاتيكان، بطابع الإبادة الجماعية لتلك الأحداث. ويحصي الأرمن مقتل مليون ونصف المليون شخص، وتطهيرهم من «أرمينيا الغربية» التي تمتد حالياً من جبل أرارات إلى كيليكيا، ومن ضمنها ديار بكر وأضنة وهضبة الأناضول، وجرى تهجيرهم منها. ويقولون إن هذه الأراضي «محتلة الآن من قبل تركيا»، بحسب ما يقول الناشط الأرمني المقيم في لبنان آرا سيساريان لـ«الشرق الأوسط»، إذ «تقلصت أرمينيا التاريخية من 180 ألف كيلومتر مربع، إلى 30 ألف كيلومتر مربع، وهي أرمينيا الحالية».
ويقول سيسيريان إن تنفيذ الإبادة بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، بينما التخطيط لها بدأ في عام 1860 عندما لم يطبق الدستور العثماني الذي كان يفترض أن يحفظ حقوق الأقليات في تركيا. ويقول: «بدأت مضايقة الأرمن والأقليات، وانطلقت عمليات القتل والتهجير في الربع الأخير من القرن العشرين، ولم تكن على نطاق واسع»، إذ طالت مناطق وقرى وبلدات متفرقة، بالتزامن مع ضغط مكثف مارسته الدولة العثمانية على الأرمن. وفي أواخر القرن الـ19. تزايدت الضغوط: «قبل أن تتخذ تركيا القرار بإبادة الشعب الأرمني واحتلال الأرض، والتهجير الممنهج في عام 1915 بالتزامن مع الحرب العالمية الأولى».
واعتبر أن تركيا «تحتل الآن ثلثي الأراضي الأرمنية الموجودة اليوم ضمن تركيا الحالية، ومن ضمنها جبل أرارات، وهو رمز الشعب الأرمني»، مشيراً إلى أن الدخول في تفاصيل جغرافية وتاريخية «يثبت أنه لم يكن سابقاً هناك بلد اسمه تركيا، والأرمن موجودون منذ 4 آلاف سنة».
يغوص الأرمن في ذاكرة «الإبادة»، ويتناقلونها من الأجداد إلى الأحفاد. ويتحدث هؤلاء عن الوجع الذي يحملونه من جراء واحدة «من أبشع المجازر عبر التاريخ»، فضلاً عن رحلة الهروب والتشتت عبر الغابات والصحارى وصولاً إلى حلب أو دير الزور في سوريا أو البادية العراقية. ورغم أن كل شخص له تجربته الخاصة مع المعاناة، ومشاهد القتل والذبح، فإن المشترك بين الجميع أن القتل والتعذيب والتنكيل «كان ممنهجاً»، ومن استطاع النفاذ من البلاد والنجاة من الموت، أخبر قصص ما رآه وشاهده في قريته، أو على طول طريق الموت من تركيا إلى سوريا أو العراق أو لبنان، أو أرمينيا الحالية.
تقول حفيدة هانازانت وزوجها غابرييل إن جديها يتحدران من هاجان Hadjin في ولاية أضنة، وكان جدها غابرييل مختار البلدة، لكنه استطاع أن يهرب عبر الجبال إلى سوريا عندما بدأ العثمانيون بجمع الرجال واقتيادهم إلى مكان ما لإعدامهم.
وتضيف لـ«الشرق الأوسط» نقلاً عن جدتها: «بعد ملاحقة الرجال وتمكن جزء منهم من الهروب، بدأ العسكر العثماني بجمع النساء والأطفال، وكانت هانازانت (في عقدها الثاني آنذاك) ووالدة زوجها معها. وأثناء اقتيادهم، قتل عسكري عثماني والدة الزوج غابرييل بالفأس لأنها تعبت ولم تستطع إكمال المسير».
جمع العسكر العثماني النساء الأرمن والأطفال أمام حفرة كبيرة، توزع الجنود بين أعلاها وأسفلها، إذ يقوم من هم أعلى الحفرة بدفع الأسرى الأرمن إلى أسفلها ليتكفل زملاؤهم بالقتل في داخلها، بحسب ما أخبرت هانازانت أحفادها. «ارتفع عدد القتلى في الحفرة، وتعب العسكر من القتل، وكانت هانازانت من أواخر الأشخاص المقيدين في أعلى الحفرة. بدأ العسكر في أعلى الحفرة بدفع الأسرى إلى الحفرة وتكديسهم فوق الجثث التي تجمعت، وبعد رحيل العسكر، استطاعت هانازانت الهروب إلى جانب أشخاص، ووصلت إلى سوريا سيراً على الأقدام»، كما روت لحفيدتها. وفي سوريا: «التقت زوجها غابرييل بالصدفة في منطقة قريبة من الحدود التركية وانتقلا إلى لبنان حيث أسسا عائلة هنا» في بيروت.
ويقول الأرمن إن عملية التطهير ونقلهم إلى خارج ديارهم على نطاق واسع وممنهج، بدأت في 24 أبريل عندما صدر أمر باعتقال جميع المثقفين الأرمن والعاملين في السياسة وإعدامهم شنقاً: «لتنطلق بعدها عملية التهجير وإبادة الشعب»، بحسب ما يقول الناشط سيسيريان، مشيراً إلى أن «كتاباً من طلعت باشا الذي كان وزيراً للداخلية في الدولة العثمانية، أعطى الأمر فيه لتهجير وقتل الأرمن». ولفت إلى أن الشريف حسين بن علي «أصدر فتوى للعرب آنذاك باحتضان الشعب الأرمني ومساعدته، وفتح أبواب بيوت العرب أمام الناجين منهم».
يُشار إلى أن مجموعات أرمنية فدائية قاتلت العثمانيين خلال تلك الفترة، وبقيت الحرب بينهما حتى عام 1918.
مطالب باعتراف دولي
واعترفت برلمانات كثيرة بالإبادة الأرمنية، بينها ألمانيا وإيطاليا وسويسرا واليونان ولبنان وقبرص، فضلاً عن 50 ولاية أميركية، لكن الأرمن يسعون لتوسيع الاعتراف الدولي بهذه الإبادة بهدف «وقف حالة الإفلات من العقاب». لكن أنقرة ترفض استخدام كلمة «إبادة» وتقول إنّ السلطنة شهدت في نهاية عهدها حرباً أهلية تزامنت مع مجاعة، ما أدى إلى مقتل ما بين 300 ألف و500 ألف أرمني وعدد مماثل من الأتراك حين كانت القوات العثمانية وروسيا تتنازع السيطرة على الأناضول.
ويقول النائب في البرلمان اللبناني من أصول أرمنية هاغوب تيريزيان لـ«الشرق الأوسط» إن أساس كل المجازر في التاريخ الحديث هو الإبادة بحق الشعب الأرمني، معرباً عن اعتقاده أنه «لو عوقب المتسببون بها والمذنبون، لما حصلت الإبادات الأخرى في رواندا وغيرها». وقال: «ما ارتكبه العثمانيون بحق الأرمن، ارتكبوه أيضاً بحق الشعوب الأخرى، في لبنان حيث علقوا المجازر وأعدموا المثقفين من سائر الطوائف، كذلك فعلوا في دمشق وغيرها، وعانت جميع الشعوب التي كانت تحت سيطرة السلطنة العثمانية مما فعلوه بالأرمن»، لافتاً إلى أن «ما ارتكبوه بحق الشعب الأرمني هو إبادة وتفريغ للأرض من البشر، وتطهير عرقي ونقل ديموغرافي». ورأى أن «مجرد عدم اعتراف تركيا بالتاريخ الحقيقي، فهذا يعني أنها مدانة بالإبادة»، لافتاً إلى أن الأتراك، وبعد تسلم كمال أتاتورك للحكم، أخرجوا المحكومين والمدانين من السجون، «وهو ما يؤكد الإبادة».
وشدد سيسيريان على أن «الاعتراف بالإبادة هو أمر أساسي لأي دولة تناضل لأجل حقوق الإنسان، ويجب أن تشهد بتلك الإبادة عبر الاعتراف بها، لعدم تكرار أي حدث مشابه»، مؤكداً أن «الإفلات من العقاب يؤدي إلى استمرار الحدث». وقال: «ما نفذه (داعش) في سوريا أو العراق أو مناطق أخرى حول العالم، هو نموذج صغير مما ارتكبه العثمانيون بحق الشعب الأرمني». وأشار إلى أن تركيا لم تعترف «لأن الاعتراف يرتب عليها الحقوق وإعادة الأراضي التي استولوا عليها وهي أراضي الأرمن».
وأكد أن «الحديث عن قضية إنسانية بهذا الحجم» وعن جذورها ومعاناة أجداده «لا ينتقص أبدا من لبنانيتي»، لافتاً إلى أن «الحق لا يموت ما دام وراءه مطالب، والمطالبة بالقضية لا تنتقص من لبنانيتي».
وتشكلت أرمينيا الحالية البالغة مساحتها 30 ألف كيلومتر مربع، بعد انهيار الإمبراطورية الروسية في عام 1918، حين أعلنت أرمينيا الاستقلال، لكنها واجهت هجمات تركية لاحتلال أرمينيا الحالية، ووقعت حرباً على الحدود الحالية بين تركيا وأرمينيا، علما بأن الجيش الأرمني ورغم أن عدده قليل، استطاع إعادة الجيش التركي إلى الخلف، وبقيت جمهورية أرمينيا التي تعتبر حدودها مع تركيا في هذا الوقت مغلقة.