يرى البعض أنّ الفارق بين الجزائر والسودان كبير. فالأولى، وبسبب ثورة مديدة ومكلفة (1954 - 62)، بنت جماعة وطنيّة لم يعرفها الثاني. هذا التقدير صحيح في الظاهر. في العمق، لا.
فـ «ثورة المليون شهيد» كانت، كمعبد جانوس، ذات وجهين. وجهها الآخر أنّها جعلت الجيش الشكل الوحيد لوجود الدولة. وتبعاً للسرّيّة التي تشكّلت بموجبها قوّات الثورة، باتت الغفليّة وانعدام الشفافيّة من شروط «السياسة» في البلد المستقلّ. أجهزة الأمن غدت، بالتالي، الأجهزة القائدة.
الدم والتآمر كانا كثيرين قبل الاستقلال وبعده. أوّل الضحايا البارزين كان مصالي الحاج، مؤسّس الوطنيّة الجزائريّة، وأستاذ الجيل اللاحق من الحكّام والمعارضين. مصالي أراد أن يستكشف إمكانات النضال السياسي بالاستفادة من ظروف نزع الاستعمار التي أعقبت الحرب العالميّة الثانية. استؤصل أتباعه داخل الجزائر عام 1957، ثمّ في فرنسا فيما عُرف بـ«حرب المقاهي». الرجل قضى عام 1974 في باريس.
ثاني الضحايا البارزين كان عبّان رمضان: «مفكّر الثورة» و«مهندس مؤتمر الصومام» في 1956 الذي تأسّس بنتيجته جيش التحرير الوطنيّ. على الحدود مع المغرب شنقه رفيقه عبد الحفيظ بوصوف بربطة عنقه.
مع الاستقلال تكاثر الضحايا: فرحات عبّاس، رئيس الحكومة المؤقّتة، سجنه أحمد بن بلّة وبقي في السجن حتّى إطاحته في 1965. لاحقاً، فرض عليه هواري بومدين الإقامة الجبريّة التي امتدّت من 1976 حتّى رحيل الرئيس في 1978. يوسف بن خدّة، الرئيس الثاني للحكومة المؤقّتة، شُنّت على مؤيّديه «حرب الولايات» التي أودت بالمئات. هُزم بن خدّة وعاد إلى مزاولة مهنته كصيدليّ. محمد بوضياف وحسين آيت أحمد، وهما من قادة الثورة، اتّهما بالتآمر وحُكم عليهما بالإعدام وغادرا الجزائر إلى المنفى.
في 1965 انقلب بومدين على بن بلّة. وطّد السلطة الاستبداديّة وكان الداخلُ قد فرغ من المعارضين البارزين، لكنّ الخارج لم يفرغ: هكذا اغتيل في 1967 محمد خيضر في إسبانيا. في 1970 اغتيل كريم بلقاسم في ألمانيا. الاثنان من تاريخيي الثورة. في 1976 صُدّرت أزمة الداخل إلى الخارج على شكل حرب مع المغرب.
انفجار من نوع آخر شهده العام 1980: إنّه «الربيع الأمازيغيّ». كان غريباً أن يحدث هذا في الجزائر التي كانت ثورتها لغويّة بمعنى من المعاني.
الأمازيغ، وهم ربع السكّان، احتجّوا مطالبين بحقوقهم اللغويّة. الاحتجاج تحوّل عصياناً مدنيّاً. لكنّ سحقه لم يحل دون انفجاره ثانية، في 2011. حين قُتل 120 شخصاً قبل الإقرار بالأمازيغيّة لغة وطنيّة.
بعد وفاة بومدين، صارت المهمّة المُلحّة البحث عن رئيس يكون واجهة للمجمّع العسكري - الأمنيّ. النتائج أتت على النحو التالي:
الشاذلي بن جديد: حكم خلال 1979 - 92. عسكري وضابط في جيش التحرير. دافع عن الانفتاح وفي عهده أُعلنت التعدّديّة الحزبيّة عام 1990 لتُلغى في 1991 مع فوز «جبهة الإنقاذ» في الشوط الأوّل من الانتخابات. أُجبر على الاستقالة، لكنّ الحرب الأهليّة كانت قد اندلعت، وهي التي أودت في حصيلتها بمائتي ألف قتيل. القاع الاجتماعي ظهر على نحو لا سابق لبشاعته قطعاً للرؤوس واغتصاباً يمارسهما جميع المتقاتلين (لكنْ لاحقاً ومع صدور قانون الوفاق الأهلي أعفي عن المرتكبين بصُنفيهم).
محمد بوضياف، القائد التاريخي للثورة، استدعي من المنفى لأنّ النظام بات يفتقر إلى رموز. اختير في 1992 فحكم أربعة أشهر ثمّ اغتاله حارسه.
علي الكافي: أيضاً قاتل في الثورة. حكم حتّى 1994. الغموض أطاح بشخصه وبدوره وبإبعاده. الغموض يومذاك، وبالتوازي مع الحرب الأهليّة وفظاعاتها، كان سيّد الدائرة المغلقة للنظام. الاغتيالات طالت أقطاباً كقاصدي مرباح في 1993 وأبو بكر بلقايد في 1995.
اليامين زروال: شارك في الثورة. رشّحه الجيش للرئاسة. أنشئ له حزب جديد كي يبدو الكلام عن التغيير جدّيّاً. الحزب الوليد ورئيسه فازا في انتخابات مزوّرة. زروال حكم بين 1995 و1998. استقال وتكتّم عن الأسباب، لكنْ تردّد أنّه اعترض على تهميش الجيش له في تعاطيه، قتالاً وتفاوضاً، مع المسلّحين الإسلاميين.
عبد العزيز بوتفليقة: وزير خارجيّة بومدين التاريخي. وصل إلى الرئاسة في 1999 وبقي فيها حتّى أسابيع خلت.
في هذا الغضون، قرأ شبّان الجزائر وشابّاتها، الذين ينتفضون اليوم، كتاب «معذّبي الأرض» لفرانز فانون، وكيف أنّ للعنف ضدّ المستعمِر الفرنسي وظيفة علاجيّة تشفي المستعمَر الجزائريّ. وهم، من دون شكّ، ضحكوا كثيراً.