بعد منافسة بين 6 روايات لروائيين عرب من لبنان، والأردن، وسوريا، ومصر، والعراق، والمغرب، فازت الروائية اللبنانية هدى بركات بـ«الجائزة العالمية للرواية العربية» (البوكر العربية 2019)، عن روايتها «بريد الليل» (دار الآداب)، كما أعلنت لجنة الجائزة في حفلٍ أقيم في أبوظبي، عشيّة افتتاح معرض أبوظبي الدولي للكتاب.
وكانت الأسماء الأخرى التي تنافست على الجائزة الأولى هي: الأردنية كفى الزعبي «شمس بيضاء باردة»، والسورية شهلا العجيلي «صيف مع العدو»، والمصري عادل عصمت «الوصايا»، والعراقية إنعام كجه جي «النبيذة»، والمغربي محمد المعزوز «بأي ذنب رحلت؟».
وبررت اللجنة فوز بركات معتبرة «أن رواية (بريد الليل) رواية حول بشر هاربين من مصائرهم، وقد أصبح الصمت والعزلة والكآبة والاضطراب كونهم الجديد، وهي رواية إنسانية ذكية الحبكة توازن بين جدة التكنيك وجمال الأسلوب وراهنية الموضوع الذي تعالجه».
ورواية «بريد الليل» لا تحديد للمكان فيها، لكن لبنان حاضر في كل تفاصيلها، في ضياع شخصياتها، في آلامهم وتمزقاتهم. وهي رواية تختلف تقنياً عن كل سابقاتها للأديبة. لا بل كل رواية لها، عالم آخر، وفكرة جديدة، وإن دارت جميعها في فلك ألم الحروب ولعنتها. لا بل إن «بريد الليل» عبارة عن 5 رسائل يكتبها أصحابها بما يشبه الفضفضة، التي لا نعرف إن كانت مصارحة أو هذياناً، كذباً أو خبثاً، اعترافات أم مجرد كلام لا يراد منه أن يصل إلى المخاطب. كل رسالة لها نكهتها وأسلوبها وروحها الخاصة. والبوسطجي هذا الذي لن يوصل الرسائل التي كتبت، وليس موجوداً أصلاً، ليس حضوره تقنياً، كما فهم البعض. «هو وجود له رمزيته، لأن دوره الوجودي برمته قد انتهى، ولم يعد له من وظيفة فعلية لتأمين التواصل بين الناس. فـ«الإيميل» بنظري ليس رسالة بالمعنى الذي نفهمه.
لقد أصبحت الرسالة رمزاً لتواصل قد انقطع»، كما شرحت لنا بركات في مقابلة سابقة أجريتها معها قبل أشهر، ونشرت في «الشرق الأوسط».
وفي رأينا تستحق هدى بركات فوزها بـ«جائزة الرواية العربية» البوكر، لسببين على الأقل؛ أولهما أنها لم تستجد الجوائز، ولم تأبه لأن «تقولب» كتابتها على مقاسها، أو على مقاس القارئ الغربي ومزاجه، طمعاً في ترجمة، أو اصطياداً لشهرة. ومع ذلك ترجمت إلى الكثير من اللغات، ولجنة «البوكر» هي التي طلبت ترشيحها، وليس العكس، بعد أن كانت قد أصابها اليأس من المداهنات والشللية، ونأت عن الأجواء المشحونة بالحسد والمزاحمة. ولم تكن هدى بركات تخفي رأيها بأن الجمع بين المداهنة الاجتماعية والكتابة محال، لأن الكتابة بحد ذاتها لا تقبل الخيانة وتضييع الوقت.
ومع ذلك حصلت خلال مشوارها الأدبي على «جائزة نجيب محفوظ»، التي تمنحها «الجامعة الأميركية في مصر»، عن روايتها «حارث المياه»، ووصلت روايتها «ملكوت هذه الأرض» إلى القائمة الطويلة في «جائزة البوكر العربية» عام 2013، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «مان بوكر العالمية» عام 2015، وكرمت من قبل الدولة الفرنسية مرتين، كما حصلت على «جائزة سلطان العويس الأدبية» عام 2017.
أما السبب الآخر، الذي تستحق من أجله الفوز، فهو أن لهدى بركات تاريخاً روائياً طويلاً وعامراً بالأعمال الأدبية الجميلة. ولو كان لـ«البوكر» أن تعطي الفائز جائزة على كامل أعماله، كما تفعل «نوبل»، وليس عن كتاب واحد، الذي هو «بريد الليل» بالنسبة لهدى بركات، لاستحقت هذه الكاتبة الجائزة عن مجمل أعمالها التي تناولت الحرب منذ كتابها الأول، أي خلال ما يربو على ثلاثة عقود، يوم صدور مجموعتها القصصية الأولى «زائرات» عام 1985.
مقلةٌ، غير مستعجلة هدى بركات، وغير آبهة، لذلك لم يتجاوز عدد رواياتها الست خلال مسيرتها الطويلة: «حجر الضحك» (1990) و«أهل الهوى» (1993) و«حارث المياه» (2000) و«سيدي وحبيبي» (2004) و«ملكوت هذه الأرض» (2012)، ومن ثم «بريد الليل» التي نالت عنها «البوكر».
وإذا كان من سبب ثالث تستحق من أجله هذه الأديبة، التي لم تشف من الحرب، الجائزة، رغم أنها تركت لبنان منذ عقود، وابتعدت عن المنطقة وجنونها، فهو أنها وفي هذا الزمن العنيف بامتياز الذي اختارت فيها روايات الحرب العربية الانحياز للسياسة، قررت هي أن تكون حليفة الإنسان بصرف النظر عن انتمائه وآرائه وتوجهاته. وهذه سمة يكاد يتقاسمها غالبية الكتاب اللبنانيين الذين ورطتهم الحرب بالكتابة عنها، ولم يشفوا أبداً.
حين اندلعت الحرب الأهلية اللعينة كانت هدى بركات في الثالثة والعشرين من عمرها، من يومها والنيران تحاصرها. عرفت لبنان السلم والازدهار، لكنها سرعان ما بوغتت بالعنف الدموي الذي كان يهجّرها من مكان إلى آخر. مجموعتها «زائرات» كانت بمثابة بروفة لما ستكتبه فيما بعد. مع ولدين كان لا بد لها أن تبحث عن ملجأ. ذهبت إلى باريس بعد روايتها الأولى «حجر الضحك» التي كتبتها عن الحرب ومعاشها وجنونها من خلال شخصية «مثلي»، وأعادت مراجعتها وكتابتها بسبب التشتت. لكن النتيجة كانت مشجعة والحفاوة كانت كبيرة. من يومها، وابنة بشري في شمال لبنان، تلك البلدة الجبلية التي ولد فيها جبران خليل جبران، تنحت في صخر الكلمات، وتنبش في لا وعيها، ولا وعي كل الذين ذاقوا مرارة القتل والتهجير والفقد.
ربما تسريب نتيجة «جائزة البوكر»، قبل إعلانها بساعات، قد تسبب بانزعاج كبير لباقي المرشحين على اللائحة القصيرة، لكن هذا لا يقلل من قيمة أدب بركات، ولا من جدارة مرشحين ومرشحات أخريات. فقد انسحبت، حسب ما كتبت الزميلة إنعام كجه جي، التي كانت على اللائحة القصيرة، من حفل «البوكر»، وكتبت على حسابها على «فيسبوك»: «الآن بدأ في أبوظبي حفل الإعلان عن الفائز بجائزة (البوكر) للرواية العربية.
وجدت أن من المناسب الامتناع عن حضور الحفل بسبب التسريبات التي سبقته وتضر بهذه الجائزة. لا يمكنني المشاركة فيما نسميه باللهجة العراقية (عرس واوية). مبروك للعزيزة هدى بركات فوزها بـ(البوكر)، وهي تستحق ما هو أفضل من هذه الجائزة التي كانت على حق يوم دعتني لمقاطعتها».