حققت التسوية الرئاسية أهم إنجاز وطني للمسيحيين الذين نجحوا في استعادة التوازن الوطني في ثلاثة مواقع دستورية: رئاسة الجمهورية، مجلسا النواب والوزراء، ولولا هذه التسوية لكان الخلل ما زال مستمرا إلى اليوم، وتصحيح هذا الخلل لم يكن على حساب الشركاء المسلمين، ولا من خلال تعديل الدستور، بل من طريق تطبيق هذا الدستور لجهة التمثيل الحقيقي لجميع مكوناته.
وما تحقق يجب الحفاظ عليه وتحصينه وتجنُّب تضييعه حفاظاً على الشراكة والميثاق والدستور. وبالتالي، لا يجب في غمرة التباينات في اليوميات السياسية حول ملفات مهمة وأساسية تتصل بإدارة الدولة ومكافحة الفساد وتحسين أوضاع الناس الحياتية والمعيشية، أن يخسر المسيحيون دورهم الوطني الطليعي.
وإذا كان المشهد السياسي بحركته الخارجية الظاهرة أعاد الاعتبار للدور المسيحي بنحو غير مسبوق منذ العام 1990، إلّا انّ ثمة مسؤولية تقع على الرئيس ميشال عون في الحفاظ على ما تحقق وتحويله قاعدة وليس مجرد استثناء مطلوب عدم تكراره بفِعل انّ سيئاته أكثر من إيجابياته، لأنّ الأمور تقاس بنتائجها وليس بحركة السلطة وتوازناتها فقط لا غير، ولذلك يجب ان يسهر عون شخصياً على متابعة 4 ملفات أساسية:
ـ الملف الأول مالي واقتصادي بامتياز، إذ ليس مقبولاً ان يصل الوضع الى هذا الدرك في عهد عون، وإذا كان ما وصلت إليه البلاد هو نتيجة تراكمات لسنوات وعقود خَلت ولا يجوز تحميلها لهذا العهد، إلا انه كان يفترض بفريق العمل المحيط بالرئيس ان يستشرف هذا الوضع وان يضع رئيس الجمهورية في صورته لكي يدق ناقوس الخطر لاتخاذ الإجراءات الوقائية تجنّباً لملامسة الخطوط الحمر.
ولا ينحصر الاستشراف برئاسة الجمهورية بل يتعلق أيضاً برئاسة الحكومة والوزارات المعنية والمواقع الاقتصادية الأساسية المطّلعة على الأرقام وحقيقة الوضع الاقتصادي والمالي، وعلى رغم من انّ «القوات اللبنانية» ليست في مواقع القرار وغير متاح إليها الوصول الى المعلومات الاقتصادية الرسمية، إلا أنها حذّرت منذ أكثر من سنة ونصف من خطورة الوضع تبعاً لجلسات مع خبراء وأصحاب اختصاص وضعوها في صورة واقع الحال ودقته، وعلى هذا الأساس دعت حكومة تصريف الأعمال الى الإلتئام لمواجهة المخاطر المحدقة.
والجميع يتذكر الموقف الذي أطلقه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي من القصر الجمهوري نقلاً عن رئيس الجمهورية ومنذ نحو عام تقريباً بأنّ البلد مفلّس، الأمر الذي أثار بلبلة واضطر القصر الى إصدار بيان توضيحي حاول تلطيف مضمون ما نقله الراعي من دون ان ينفيه.
وما يجدر قوله انّ رئيس الجمهورية تلا في إحدى جلسات الحكومة السابقة تقريراً حذّر فيه من خطورة الوضع في حال عدم المبادرة الى التصحيح فورا، الأمر الذي لم يحصل لا في الحكومة السابقة، ولا في خضم مرحلة تأليف الحكومة الذي طال كثيراً من دون التوقف عند تداعياتها، ولم تحصل المبادرة الا بعدما وصل لبنان الى الحائط المسدود.
فما حصل على هذا المستوى يجب ان يقدم درساً للجميع، وان الأولوية القصوى لأي سلطة سياسية هي مصلحة الناس ولقمة عيشهم، وعدم السماح بإيصال البلاد الى ما يهدد حياتهم، وقوة العهد تكمن في تشكيله، كشريك في السلطة التنفيذية، الضمان للناس في استقرارهم المالي والاقتصادي، وفي ان يُقدِم منعاً لتدهور الأوضاع المعيشية وأن لا يكتفي بالتوصيف.
ـ الملف الثاني إصلاحي بامتياز، إذ في موازاة الورشة المالية التي انطلقت حفاظاً على الاستقرار المالي انطلقت ورشة إصلاحية أيضاً مواكبة للورشة الأولى بغية تحسين وضع الخزينة والتزاماً لمقررات «سيدر» وترجمة لرغبة الناس بمكافحة الفساد وانتظاراتهم الكثيرة من عهد عون على هذا المستوى الذي يعتبر الوحيد الممكن تحقيقه في ظل ثلاثية محكمة: وضع مالي أكثر من دقيق، قرف الناس ورغبتهم الجامحة بالإصلاح، والضغط الدولي الكبير الذي يشترط الشروع في الإصلاح قبل مساعدة لبنان مالياً، وهذه الثلاثية قد لا تتكرر مستقبلاً، ولذلك يجب الاستفادة منها لتحقيق الإصلاح المنشود.
ـ الملف الثالث ميثاقي بامتياز، فالعهد القوي يجب ان يشكّل الضمان للشراكة الحقيقية بين المكونات الطائفية، ولا يجب ان تشعر أي طائفة انّ استعادة المسيحيين لدورهم يشكل تهديداً لأدوار الطوائف الأخرى، لأنّ الشراكة ممكنة بالفعل وليس بالقول فقط، وغير صحيح على الإطلاق انّ في المعادلة الطائفية يجب ان يكون هناك دوماً طائفة مميزة على حساب الطوائف الأخرى، لأنّ أي معادلة من هذا النوع تعني ان الوضع في لبنان لن يستقر في اي يوم من الأيام في ظل السعي المتواصل للطوائف الى الأدوار المميزة على حساب غيرها، فيما السعي يجب ان يكون نحو تثبيت الشراكة وان يكون الدور المميز للتجربة اللبنانية فقط لا غير. ويمكن القول انّ التجربة على هذا المستوى لم تكن مشجعة لا داخل البيئة المسيحية ولا مع الطوائف الأخرى إن في ظل السعي الى تكريس أعراف على حساب الدستور، او على خلفية استسهال إعادة نبش ملفات الحرب وخوض مواجهات لا علاقة لها بالسياسة.
ومن هذا المنطلق على عون ان يعيد تنقية الصورة من الشوائب التي لا يتحملها شخصياً، إنما تقع على مسؤولية بعض من يحوط به.
ـ الملف الرابع استقراري بامتياز، أي في موازاة الاستقرار المالي والميثاقي، فإنّ الناس تتوقع من عهد عون ان يحافظ على الاستقرار السياسي بالابتعاد عن الملفات الخلافية، وان يبقى في موقع المُمسك بالعصا من وسطها في ظل انقسامات عمودية وتوترات إقليمية، وان يحافظ على سياسة «النأي بالنفس» تجنيباً للبنان أي حرب إقليمية على خلفية النزاع المستعر بين واشنطن وتل أبيب من جهة، وبين طهران من جهة أخرى، لأنّ اي حرب يمكن ان تشمل لبنان على وقع أزمته الاقتصادية يعني على لبنان السلام. وبالتالي، على عون ان يضمن ابتعاد «حزب الله» عن اي فعل أو رد فعل وإبقاء لبنان في منأى عن النزاع الكبير الدائر في المنطقة، ويكون الساهر على تحييد لبنان لإنقاذه، خصوصاً انّ التحييد يشكل جزءاً لا يتجزأ من تكوين لبنان.
إنّ نجاح عون في إدارة هذه الملفات الأربع وإيصالها الى شاطئ الأمان يُظهر ان الرئيس، الممثّل لتطلعات بيئته وهواجسها، قادر على ان يشكل الضمان للاستقرار الوطني والدستوري والسياسي والمالي والأمني والشعبي، الأمر الذي يجعل تجربة انتخابه قاعدة لا استثناء، خصوصاً انّ انتخابه ساهم في ترسيخ التوازن الوطني وأعاد الاعتبار للدور الوطني المسيحي، ولا يجب التفريط بما تحقق، بل العمل على تحصينه وتثبيته وتطويره.