بلغةٍ صلبة تقود مفردات الوصف إلى أعلى درجات التعبير، كأنّه ينتشلُ الجرح الذي لم يلتحم من نحر المشاعر الفيّاضة، ويختزلها كلّها في شخصية الأرقش، وهي شخصية على ما يبدو عكست نظرته الشاملة للإنسان بضعفه وخذلانه وقلبه الذي هو ترجمان عواطفه.
سرّ الرجل الصامت
تبدأ الحكاية من زيارةٍ للترفيه يقوم بها الكاتب مع صديقه إلى مقهى عربي في نيويورك، حيث يتعرّف إلى الأرقش، وهو شابٌ يعملُ لدى صاحب المقهى ولكنّه صامتٌ لا ينبس ببنت شفة ممّا يثير دهشته.
تمرّ الأيام، حتى يسمع مصادفة بموت الأرقش، ويعثر عن طريق الصدفة على مذكراته في قبو المقهى حيث كان ينام، فيثور فضوله، ويقرّر أن يمضي قدماً ويطّلع عليها، ليعرف سرّ ذلك الرجل الصامت.
يتفاجأ الكاتب بشخصية الأرقش الحقيقية، فهو شخصٌ حكيمٌ فيلسوف، إذ يقرأ في مذكراته حكمته عن الحب والمطر والحياة والفقر والغنى، ويقول في إحداها: «الناس قسمان : متكلمون وساكتون، أنا قسم الانسانية الساكت وما بقي فمتكلمون. أما البكم والرضّع، فلغاية ختمت الحكمة الازلية على أفواههم، فلا يتكلمون. في حين اني ختمت على فمي بيدي وقد أدركتُ حلاوة السكون ولم يدرك المتكلمون مرارة الكلام لذاك سكت والناس يتكلمون».
الألم يكمنُ في الجهل
يصرّ الأرقش على التكتّم عن حقيقته، يخال نفسه يلمس السحاب بيده بارتقائه عن الضجيج من حوله، يزوره دائماً ليلاً شبح فتاة ترشح الدماء من عنقها، وتنظر إليه ساكنة صابرة، ولكنه يتساءل من هي؟ وما هدف زيارتها؟ وهل يعرفها حقّاً أم أنّ الأمر يتراءى له مثل هلوسة الظلام؟
يسبر الأرقش غمار الحياة بكلّ فصولها وطقوسها وتعاليمها، يؤمن أنّ الألم يكمنُ في الجهل ويتوغّل فيه، فلا التأمّل ولا السماح والقناعة عوامل تكفي للقضاء عليه، بل هي مجرّد مسكنّات موقته، والمعرفة هي السلاح الفاني له، فهي التي تقهر العبودية وتأسر القلوب.
حكم مكثّفة
الحِكمُ مكثّفة في نص نعيمة، تنضح بالمعروف لمن يزرع حتى نأكل نحن، ومن يعطي فنكتسب العلم والمعرفة والنصح الجزيل. آراءٌ تكلّم عنها في كتابه «مرداد» بشكلٍ مفصّلٍ في ما بعد، وكأنّ الفلسفة ركنٌ أساس من شرح كلّ ساكنٍ وشاردٍ وواردٍ في الكون. حيث يرى مثلاً بأنّ الناس عبيدٌ لعاداتهم، وأنّ الوطن مجرّد عادة وليس تعلّقاً وولهاً. وهنا تبرز شخصية نعيمة الفلسفيه الجانحة لعمق العلّة والمعلول.
الثالوثية المركّبة في رواية الأرقش هي الفلسفة والحكم وعلم النفس، كلّها عناصر تجتمع لتكون منهجاً للحياة يقترحه الكاتب، ويترجمه من خلال إنسانٍ غامض يسمّي نفسه الأرقش، يتّضح في ما بعد أنّه ينحدرُ من عائلة عريقة، وقد وقع في غرام فتاةٍ تماثله في الطبقة الإجتماعية ثراءً وعلماً وجمالاً وحسباً ونسباً. ولكن بعد الزفاف بيومٍ واحد، يعثر العاملون في الفندق الذي مكثا فيه على العروس وقد ذُبحت من الوريد إلى الوريد، ويكتشفون بأنّ العريس قد اختفى تاركاً قصاصة من الورق كُتب فيها: «ذبحتُ حبي بيدي لأنّه فوق ما يتحمّله جسدي، ودون ما تشتاقه روحي».
تلاطم سايكولوجي
هذا التلاطم السايكولوجي في شخصية الأرقش يشبه في تخبّطه الإنفرادي، التحرّك المزدوج في شخصيات عالم دوستوفيسكي الروائي، وإن اختلف الإثنان في تحفيز دافع الجريمة. إذ يرى الأول أنّ الفلسفة عميقة قد تؤدي لاقتراف أكثر أنواع الجرائم شغفاً، ويرى الثاني أنّ العدم يصنع مجرماً.
مذكرات الأرقش، تأييدٌ ضمني لنظرية كولون ولسون الذي قال: « يرتبط الجنس عند الانسان منذ سن مبكرة بفكرة انتهاك نقاء الإنسان، وبرغبته في أن لا «يُلمس» وباشمئزازه من القذارة ومن الجسد الغريب، وكلما إزداد طهر الإنسان إزداد معه احتمال ربط الجنس». وهذا ما حدا بالأرقش أن يؤلّه محبوبته حدّ أن طهّرها من رغبات الجسد فقتلها.