تعيدنا أحداث الجزائر والسودان إلى سؤال الثورات العربية، هل هي ثورات؟ هل هي ربيع عربي؟ أم شتاءه.
كما نعتت لاحقا!! ما حدا بالرئيس اللبناني بوصفها مؤخرا: بالجهنم العربي!!! الغريب أن وصفه تزامن مع ما يحصل في الجزائر وفي السودان وهما حراكان أقل ما يقال عنهما أنهما سلميّان بامتياز. فآلاء صلاح التي تجوب صورتها العالم، ظلت منذ بداية الحراك تتنقل من موقع إلى آخر بطقس تفوق حرارته 40 درجة مئوية، بثوبها التقليدي الأبيض، وقرطها الذهبي المدور، لتردد "شعبي يريد ثورة".
هتفت آلاء بأبيات شعريّة للشاعر أزهري محمد علي، الذي كتب لأمه رسالة وداعٍ واعتذارٍ لنكثه عهدا قطعه لها بعدم التحدث في السياسة في زمن حكم العسكر. ومن بين أبياته:
الخوف عديم الساس.. وأنا جدي ترهاقا....
حبوبتي كنداكة.. وعبد الفضيل الماظ
فراس بشيلو الرأس..
و"الكنداكة"هو لقب الملكات الحاكمات في الحضارة النوبية، في إشارة الى قيادة الجدات اللواتي حكمن منذ آلاف السنين.
الصور والأخبار التي تردنا من الجزائر والسودان تعيد إلى الأذهان بدايات الثورات العربية التي انطلقت تحت شعارات وبممارسات سلمية. أذكر أني تلقيت في مطلع الحراك في مصر تعليمات مصورة عن كيفية التعامل مع رجال الأمن والعسكر وعن حمل الورود وتقديمها لهم لأنهم ليسوا "الأعداء" بل هم جزء من الشعب ومعاناته.
حينها أهم ما كرّسه الشباب المصري المنتفض، الممارسات المدنية والمتمدنة النموذجية بدءاً من النظافة مروراً بهتاف "سلمية، سلمية" الشهير. كما يحصل في الجزائر والسودان اليوم. انتقلت شعارات سلمية سلمية إلى سوريا وبحت حناجر الشباب السوري طيلة سبعة أشهر من دون أن تلقي الدعم المطلوب، ما حدا بالنظام إلى قطع حنجرة المغني قاشوش ورمي جثته في النهر. واجتاح العنف الذي خطط له النظام وحلفاؤه الإقليميين سوريا التي تحولت جحيماً جعلوه "ماركة مسجلة" ألصقت بشباب الثورات وأصحابها. مع أن التتبع الموضوعي للثورات تدهشه ردود فعل المتظاهرين المسالم خصوصا في ميدان التحرير في القاهرة وعدم ردهم حتى على عنف الشرطة أو البلطجية. كما ثباتهم في الجزائر وفي السودان الآن وكأني بهم يردون على جميع الكليشيهات المجحفة التي لحقت بصورة العربي "الإرهابي" في العالم.
يبدو أن زمن الثورات العنيفة التي يعرّفها قاموس لاروس كتغيير مفاجئ وعنيف للبنية السياسية والاجتماعية للدولة؛ قد ولّى.
كأن ما يحدث في الجزائر وفي السودان، كتكملة لما حدث عام 2011، يبرهن أن هناك استعادة، ولو غير معلنة، لأسلوب غاندي في محاولة الإطاحة بالاستبداد عن طريق اعتماد مبدأ اللاعنف، أو المقاومة السلمية والسلبية من أجل إحداث التغيير السياسي المطلوب تجاه الاستبداد والقمع السياسيين.
إذ من الملفت أنه منذ بدايات الألفية الثالثة التي افتتحت مع الزلزال المشهدي العنيف لتفجير برجي المراقبة الأميركيين في 11سبتمبر 2001 ، وما تلاها من ظهور حركات إرهابية تحت شعار الإسلام السياسي واستعادة الدولة الإسلامية المزعومة، وكأنها ساهمت في ترسيخ إدانة أخلاقية غير مسبوقة للعنف. من هنا نجد أن الثورات باتت تلجأ إلى التحركات السلمية كالتظاهرات، وتأخذ طابع العصيان المدني مستخدمة الرموز والشعارات وبخاصة الألوان والأعلام، للتعبير عن رفضها للواقع ومحاولة تغييره.
بدأ الأمر مع الثورة الوردية، أو ثورة الورود في جورجيا في العام 2003،. ومن ثم تبعتها الثورة البرتقالية في أوكرانيا في العام 2004، والتي ساعدها اعتمادها على اللون البرتقالي كشعار لها لكي تلمس مدى اتساع دائرة تأثيرها قبل شيوع الفايسبوك.
وتلا الثورة البرتقالية هذه انتفاضة الاستقلال اللبنانية عام 2005، وشعارها المكون من اللونين الأحمر والأبيض. أتت بعدها حركة الشباب والمجتمع المصري في 6 أبريل من العام 2008 عبر الإضراب العام الوطني والسلمي الذي شلّ الحركة في مصر. ثم الثورة الخضراء الإيرانية عام 2009 التي قمعت بوحشية غير مسبوقة.
نلاحظ إذن أن هناك مجموعة تحركات تحدث في العالم، وتجمع بينها أوجه تقارب عديدة، وتعبّر عن وجود تغيّرات مهمة على مستوى التعبير والتواصل، سواء على المستوى التنظيمي أم على مستوى مضمون التحرك الثوري السلمي نفسه. هناك نوع من نَفَس واحد خلف هذه التحركات الاجتماعية الشبابية، ومرجعية أو ذهنية سائدة تعبرها، إرادة التغيير من دون عنف. إذ ليس مجرد مصادفة حدوث جميع هذه التحركات بشكل متقارب، وبين مجتمعات شديدة البعد والاختلاف عن بعضها البعض، دون أن ننسى فنزويلا.
إنها رياح تغيير جديدة تهب على المجتمعات حاملة معها بعداً عالمياً جديداً يجمع ويقرب بين مختلف مكوناته.
فالعالم يزداد قربا كلما ازداد تنوعا؛ وهذا بتأثير ثورة المعلومات والتقنيات العديدة التي توفرها، والتي ساعدت على تمرير الأفكار وحملها عبر الحدود والسدود والحواجز، سواء الأمنية أم الثقافية أم الاتنية ...
هناك الآن مفاهيم محرّكة وهي عبارة عن مطالب جوهرية بسيطة تشمل حقوق الإنسان الأساسية مثل العدالة والمساواة والكرامة والحرية الشخصية وحرية التعبير والاختيار وفكرة المواطنة والوطن الديمقراطي. صارت جميعها من البديهيات التي يعتقد كل شاب وشابة بحقهما في امتلاكها.
ما تعجز السلطات عن استيعابه أن غالبية الشعوب العربية، هم من الجيل الشاب الذي ولد، وعليه أن يستمر في العيش، تحت حكم أشخاص لا علاقة له بهم ولا بمنظومتهم أو مرجعياتهم السياسية والأخلاقية والقيمية.
أما لمن يهزأ من الثورات العربية ويسميها شتاء وجحيما وجهنما، فأنقل هذه الفقرة من كتاب موجز التاريخ لغومبريتش، وفيه نبذة عن الثورة الفرنسية لكي نتمهل في استنتاجاتنا:
بعد خسارة نابليون، اجتمع الامراء وامبراطور النمسا الذين هزموه في فيينا للتفاوض وتقاسم أوروبا بينهم عام 1814. كان رأيهم أن التنوير هو الذي جلب الكوارث على أوروبا. وأن فكرة الحرية تحديدا هي المسؤولة عن كل الاضطرابات التي وقعت خلال الثورة. لقد أرادوا أن يلغوا الثورة بأكملها. كان ميتيرنيخ تحديدا عازما على أن يعود كل شيء لما كان عليه وألا يسمح بأن تقوم قائمة للثورة.
ونصب لويس الثامن عشر وعادت حليمة إلى عادتها القديمة في البذخ والتبذير.. وكأن 26 عاما من عمر الثورة لم تكن؛ مما زاد في سخط الفرنسيين.
لكننا نعلم جميعا أن الكرة بأكملها صارت يتبنى مقولاتها البسيطة بعد مائة عام: حرية وإخاء ومساواة.
في ظل العولمة، وكي تنجح الثورات، تحتاج إلى دعم وتشجيع خارجيين أيضا. وهذا ما تحرم منه الثورات العربية.
يبدو حتى الآن أن البحث جار على مستوى النظامين الجزائري والسوداني، بدعم من النظام التقليدي العربي، عن بدائل عسكرية مخففة للالتفاف على الثورتين واجهاضهما بالحيلة. ربما وحدها تجربة النظام السوري التي دمرت سوريا للحفاظ على النظام وإبقاء الاسد بالقوة تجعلهم يتريثون.
ولكن الزمن لا يعود إلى الوراء.