لقيت الانتخابات البلدية في تركيا، التي انتظمت يوم 31 مارس الماضي، اهتماما دوليا كبيرا، أكثر من أي مرة سابقة، رغم أنها انتخابات محلية وليست انتخابات تشريعية أو رئاسية. ويمكن إحالة ذلك الاهتمام إلى أسباب عديدة، أهمها أولا اعتبار تلك الانتخابات كمؤشر لقياس شعبية حزب العدالة والتنمية، ولاسيما مكانة زعيمه رجب طيب أردوغان. ثانيا الموقع الدولي والإقليمي الذي تطمح تركيا لاحتلاله بكل جهودها، على الصعيدين الدولي والإقليمي. ثالثا أن تلك الانتخابات جرت في ظروف معقدة في ما يخص علاقات تركيا الدولية والإقليمية، فهي أضحت بين روسيا والولايات المتحدة، وثمة اضطراب واضح في علاقتها بالأخيرة، كما ثمة مشكلة في طبيعة التدخلات التركية في الصراع السوري وفي العراق، وفي مجمل علاقات تركيا مع دول عربية أساسية.
قبل الحديث عن دلالات وتداعيات تلك الانتخابات، ربما يفيد التذكير بأن هذه الانتخابات بينت انقسام الشعب التركي بشكل عمودي إلى قسمين متساويين، حتى لو كان حزب العدالة والتنمية يأخذ حيز النصف أو النصف + واحد، في الانتخابات البرلمانية أو البلدية، كما في الاستفتاء على النظام الرئاسي حيث تم حسم الأمر بأغلبية ضعيفة.
وبلغة الأرقام، حاز التعديل الدستوري لتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي (أبريل 2017) على أغلبية 51.4 بالمئة، مع مشاركة 85 بالمئة من أصحاب حق الاقتراع. أما في الانتخابات البلدية، التي شارك فيها 84 بالمئة من أصحاب حق الاقتراع، فقد بينت فوز “تحالف الشعب”، الذي شكّله حزب العدالة والتنمية الحاكم مع حزب الحركة القومية، بفارق يتمثل في نسبة 51.74 بالمئة من الأصوات مقابل 37.64 بالمئة لـ”تحالف الأمة” الذي يضم حزب الشعب الجمهوري و”الحزب الجيد”، والباقي توزع على أحزاب صغيرة، ضمنها حزب السعادة وحزب الشعب الجمهوري.
ثمة عدة دلالات وتداعيات يمكن تحديدها على النحو الآتي:
أولا، لا يمكن اعتبار الفوز بهذا الحجم، دلالة على ارتفاع في شعبية حزب العدالة والتنمية، مثلما أنه ليس دلالة على خسارة كبيرة أو مؤثرة له، مع علمنا أن ذلك الحزب هو الذي يحكم تركيا، منذ 15 عاما، ما يفيد بأن الحزب المذكور يحافظ على شعبيته ولا يتقدم، فيما الآخرون يتقدمون وهذا فارق مهم.
ثانيا، تلك المعادلة الانتخابية باتت تضع حزب العدالة والتنمية، ومستقبل الرئيس التركي أمام تحد كبير في أي انتخابات برلمانية أو رئاسية قادمة، ما يتطلب منه استخلاص الدروس المناسبة، إذا كان يريد تجنّب أي تراجع في الانتخابات القادمة.
ثالثا، أردوغان كان صعد إلى قمة الهرم في الحكم في تركيا من موقعه كرئيس لبلدية إسطنبول عام 1994، عن حزب الرفاه، ما يفيد بأن إكرام أوغلو، الشاب الفائز ببلدية إسطنبول، عن حزب الشعب المعارض، يذكر بمسيرة أردوغان ذاتها، الأمر الذي يوضّح الوجع الناجم عن خسارة رئاسة بلدية تلك المدينة والخشية من الرسالة التي تبثها.
رابعا، كان يفترض من حزب العدالة والتنمية ألا يذهب نحو تفعيل النظام الرئاسي، رغم أن نتائج الاستفتاء منحته الحق في ذلك، لأن نسبة أقل من 52 بالمئة، كما ذكرنا، هي قليلة جدا، وكانت دلالة على حجم التذمر من هذا التحول، وهي رسالة لم يلتقطها الرئيس وحزبه، وربما دفع في الانتخابات البلدية ثمن ذلك التسرع الذي جرى قبل عامين في الاستفتاء الرئاسي.
خامسا، التصويت الكردي أتى كتصويت عقابي لحزب العدالة والتنمية، وكتعبير عن الغضب من الطريقة الفوقية في التعامل مع المسألة الكردية، الأمر الذي يتطلب مداخلات أخرى أجدى وأنسب وأفضل للتعامل مع هذا الملف الداخلي الحساس في تركيا.
سادسا، لعب تراجع الوضع الاقتصادي، وضمنه تراجع قيمة العملة التركية بالقياس للدولار، دورا مهما في التصويت في الانتخابات، وذلك على ضوء الإنجازات الكبيرة المتحققة في الميدان الاقتصادي إبان حكم حزب العدالة والتنمية، منذ عام 2002.
سابعا، اضطراب العلاقات التركية مع أوروبا والولايات المتحدة، لعب دوره في الانتخابات، وهو ما انعكس على رؤية الأتراك للمسار السياسي لبلدهم، كما انعكس على اتجاهات التصويت لديهم.
ثامنا، مع أن النظام في تركيا يرتكز على العلمانية، ويدار من قبل حزب إسلامي، يؤمن بالتجربة الديمقراطية وبالعلمانية، إلا أن لهذا الاستقطاب العلماني الديني دوره المؤثر أيضا في الاستقطاب السياسي الداخلي، وهو ما يفترض تداركه، ولصالح تعزيز الديمقراطية ولصالح الإجماعات الوطنية في تركيا.