لا ترتقي النقاشات اللبنانية حول السبل الملائمة لتخفيض العجز في الخزينة، تلافياً للإنهيار المالي، إلى مستوى الجدية المطلوبة. ينقسم أهل السلطة إلى تيارين، الأول يؤيد فرض اجراءات ضريبية على المصارف والشركات الكبرى، والثاني يصرّ على تخفيض الرواتب، بشكل مباشر أو غير مباشر. وتتركز تلك النقاشات على اعتبارات شعبوية، بعيداً من الحلول المطلوبة لتجنب الوقوع في الأسوأ.
اقتصاد الزعامات
يمكن تقسيم هذه القوى أيضاً إلى مجموعات متناحرة، تتعارض مصالحها في مرحلة، وتتلاقى في أخرى. وتتوزع هذه القوى إلى مجموعة جبهات، هدفها تسجيل النقاط السياسية على بعضها البعض. الجبهة الأولى تقوم على القوى السياسية التقليدية، التي تستفيد زعامتها من تمثيل طوائفها داخل الدولة، أي النمط التقليدي القائم على هذه الصيغة: هم في الدولة بوصفهم ممثلي مصلحة الجماعة - الطائفة وحصصها من المقدرات. وهذه "الزعامة" مثالها جنبلاط، وبرّي وفرنجية. والجبهة الثانية تجمع علاوة على سمات "الزعامة" الطائفية، سياسة رأسمالية حديثة، كالحريري وباسيل، اللذين يستفيدان من الدولة وتوظيفاتها، لكن أيضاً من الانغماس في أعمال الشركات والمقاولات والمصارف والاستثمارات، ومن العسكر والأمن.
كلفة العسكر
والجبهة الثالثة، تضم القوى العسكرية والأمنية في مختلف الأسلاك، والتي تتعاضد مع بعضها البعض بالتكافل والتضامن مع قوى أخرى (القضاء، طبقة عليا من البيروقراطيين..). وهؤلاء أيضاً يجدون أنفسهم مستهدفين، في مكتسباتهم وامتيازاتهم التي يحصلون عليها، بشكل علني وقانوني، إلى جانب المخصصات السرية. وهذه المجموعة التي لا يقرب أحد من المعنيين منها، ومن الامتيازات العائدة لها، كالتدبير رقم 3، والذي يمنح الضابط أو العسكري في كل القطاعات العسكرية والأمنية عن كل سنة خدمة ثلاث سنوات، ناهيك عن حصوله في نهاية خدمته على راتب تقاعدي وتعويض صرف، في الآن نفسه. ويتخذ التدبير رقم 3 في حالات الحرب. وبدلاً من استفادة المحاربين من هذا التدبير بات الجميع يستفيد منه، بالإضافة إلى الامتيازات الضخمة. هكذا تحول السلك العسكري إلى فرصة العمر أو وظيفة العمر، فيدخل المجند في سن 18 سنة، وبإمكانه أن يتسرح بعمر 36 أي بعد 18 سنة خدمة، لينال تعويض صرف وراتباً تقاعدياً مدى الحياة، من دون أي انتاجية. هذا بالإضافة إلى التغطية التامة له ولأسرته في الطبابة والتعليم..إلخ
جبهة المصارف
أما الجبهة الرابعة، فهي صاحبة القوة الأكبر. وتضم تجمع أصحاب المصارف والرساميل والشركات. والأرقام تشير إلى أن جزءاً كبيراً من الديون اللبنانية متأتية من فوائد المصارف، والفوائد على الفوائد. وهذه المجموعة، تجد نفسها مستهدفة، وتخضع لضغوط من أجل تقديم تنازلات جديدة، سواء بتقديم قروض مليارية بلا فوائد، أو خفض نسبة الفوائد، أو إطالة مهلة فترة السماح أمام الدولة لإيفاء الديون المستحقة عليها.
اقتصاد حزب الله
وهناك طبعاً المجموعة الخامسة، ويمثلها حزب الله، التي تستفيد من كل القطاعات السابقة الذكر، بالإضافة إلى استحواذها على اقتصاد موازٍ، أو هي مجموعة اقتصادات جانبية، من المساعدات الخارجية التي ترده، إلى السيطرة على المرفأ والمطار، وعمليات الاستيراد التي تدور فيه، وفق اتهامات من أطراف محلية وخارجية، بأنه يستخدم هذه المرافق لصالح أعماله الخاصة، كما يستطيع بفعل قوته ونفوذه أن يٌدخل ما يريد من دون دفع رسوم جمركية، إما لصالح المقاومة، أو لصالح مؤسسات دينية معفية من دفع هذه الرسوم، كالمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. وفي الفترة الأخيرة، توسعت هذه المرافق لتشمل الحدود البرية مع سوريا، حيث يسيطر الحزب على معابر عديدة على طول تلك الحدود، وقادر على التحكم في عمليات الاستيراد والتصدير من وإلى سوريا من دون أي علاقة للدولة اللبنانية. وهذا النشاط ليس بالضرورة محصوراً بالحزب، بل يشمل طيفاً واسعاً من أفراد مجتمعه.
وإلى جانب هذا الاقتصاد الخاص بالحزب، يستفيد أيضاً من وضعيته داخل الدولة، لا سيما بعد إعلانه مؤخراً استعداده للدخول إلى الدولة وإيلائها الأهمية على جدول أعمال مشاريعه. وبذلك، سيكون أحد المستفيدين من مؤسساتها، وظيفياً أو خدماتياً، أو بمجال الهبات والمساعدات.. إلخ.
خيبة أوروبية
تطغى الأوضاع المالية على ما عداها، وسط تبارز بين القوى السياسية على تسجيل انتصارات وهمية، كان آخرها ما يتعلق بخطة الكهرباء، والتي، حسب معلومات مؤكدة، لم تحظ بالرضى الأوروبي عليها، مع ورود ملاحظات من دول أوروبية معنية بالملف اللبناني، حول هذه الخطة وكيفية إقرارها، واعتبارها مدخلاً إلى شبهات جديدة في الملف وفي الخطة نفسها. إذ يبدو للأوروبيين أن الباب لم يُفتح تماماً أمام الإصلاح الجدي والحقيقي. وحسب المعلومات، فإن الملاحظات الأوروبية تتناول أيضاً بعض التفاصيل التقنية في الخطة، والتي لن تكون قادرة على تحديد مصادر الهدر أو وقفه، ولا تحديد الخسائر المالية الناجمة عن هذا القطاع.
وإلى جانب الاعتراض على خطّة الكهرباء، فإن ثمة ملاحظات عديدة ترد من الخارج حول كيفية التعاطي اللبناني مع الأزمة المالية والاقتصادية المرتقبة. خصوصاً، في ظل استمرار الانقسام اللبناني حول تحديد سياسة عامة وواضحة لمواجهة الانهيار، وحول نوعية الاجراءات التقشفية الواضحة لتجنّب التدهور. وفيما رُميت قضية رواتب الموظفين كقنبلة دخانية، فإن الاجراءات التقشفية التي ستتتخذ، على ما يبدو، ستكون أكثر قسوة وصرامة. وعلى الأرجح، فإن طرح قضية خفض الرواتب، له هدف آخر، وهو اللجوء إلى إجراءات أخرى، تشكل التفافاً على الرواتب، كرفع نسبة الضريبة على القيمة المضافة من 11 في المئة إلى 15 في المئة. كذلك، إعادة إحياء معادلة فرض ضريبة جديدة بقيمة خمسة آلاف ليرة على الوقود. وهذا الإجراء من شأنه أن يقتطع من المواطنين أكثر مما كانت ستقتطعه عملية تخفيض الرواتب.
تسوية على حساب المواطنين
وعلى الرغم من ذلك، فإن القضية كلها تبقى في مكان آخر، وهي التمنّع عن الإجراءات الجدية، التي من شأنها تخفيض العجز والهدر والفساد، وهي تتجلى في إجراءات جدية تحدد خسائر الكهرباء، وتضبط قيمتها السنوية أولاً، وتحسين وضع الجباية ورفعه. وبفرض ضرائب على فوائد الودائع المصرفية، وعلى الشركات الكبرى.
حتى الآن لا تزال الأمور تدور في حلقة مفرغة. التجاذب بين أصحاب الرساميل والشركات، وبين الموظفين، يبدو ناتجاً عن عملية متعمدة من قبل الممسكين بالسلطة، للوصول فيما بعد إلى تسوية، تُشعر الجميع بأنهم حفظوا حقوقهم، على نحو لا تتأثر بها المصارف وأصحاب الشركات، ولا المواطنين أو الموظفين عن طريق المس برواتبهم. لكنهم سيتضررون بطريقة غير مباشرة تقتطع من الرواتب، عبر الضرائب التي ستفرض. والى جانب النقطتين المذكورتين أعلاه، ثمة إجراءات أخرى مرتقبة، كتخفيض بعض العلاوات والتعويضات العائلية والتربوية للموظفين.
في المحصلة، تتصارع كل هذه القوى فيما بينها. ومن هنا تأتي الاتهامات المتبادلة، وفق منطق تنازع المصالح بين أطراف الطغمة المالية - السياسية. ومن أجل حماية كل طرف لمصلحته، يجد من واجبه التصويب على الطرف الآخر. وفي النهاية كل التهويل القائم لن يؤدي إلا إلى استهداف المواطنين، بالمزيد من الضرائب غير المباشرة، على قاعدة تسووية ستلجأ إليها هذه المجموعات المتناحرة فيما بينها.