لم يكن أمام رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي من خيار سوى التعاطي بإيجابية متميزة مع المبادرة السعودية للانفتاح والتعاون والتي يمتد زمنها منذ أكثر من أربع سنوات حيث حصلت أول زيارة لوزير خارجية سعودي لبغداد منذ عام 1990، وقد سبق عبدالمهدي رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي الذي أرسى دعائم العلاقة الأخوية خلال زيارته للرياض في يونيو 2017.
عبدالمهدي يقرأ الظرف العراقي الحالي وفق مسؤوليته أمام الشعب العراقي وعليه تقديم إجابات عملية لتجاوز أزمات العراق المتعددة والمتشابكة اقتصاديا وأمنياً وسياسياً، ونتيجة خلفيته الاقتصادية فالأرقام التي بين يديه تشير إلى عجز كبير ومديونية عالية تصل إلى قرابة 100 مليار دولار، وأمامه ملف النازحين وإعمار مدنهم المخربة، وهناك حاجة ماسة إلى الطاقة والكهرباء التي لم تحل أزمتها رغم ما صرف عليها خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، مليارات الدولارات التي ابتلعتها حيتان السرقة والفساد. عبدالمهدي متيقن مِنْ أن إيران المتغلغلة داخل العراق لم تقدم لشعبه عونًا، والمثال ليس بعيداً في قطع الكهرباء عن مدينة البصرة الصيف الماضي بسبب تأخر العراق عن تسديد المستحقات.
السعودية تتصدر الآن مشهد مساعدة العراقيين دون شعارات وأيديولوجيات، هناك فرص للاستثمار السعودي في العراق كبيرة في ميادين الطاقة والخدمات الغذائية والصحية والتعليمية والترفيهية وفق برامج جدّية لإخراج العراق من محنته الحالية، وهذه تتوقف على قدرة الجانب العراقي على التفاعل والتعاطي مع هذا الانفتاح، ويبدو أن عبدالمهدي قد أدرك ما ستخلفه هذه الخطوات من خير لشعب العراق، إن لم يواجه المعوقات من السياسيين المغرضين الذين لا يفهمون من السياسة سوى الولاء لولي الفقيه في طهران.
لكن النظر إلى العلاقات العراقية السعودية من الزاوية الاقتصادية فقط فيه تجنٍّ على أهمية العراق التاريخية والإستراتيجية في المنطقة والتي غابت وغُيّبت بسبب كارثة اجتياح صدام للكويت عام 1990، وتراجعت تلك المكانة بعد الاحتلال الأميركي وانكفأ هذا البلد وتراجعت قدراته البشرية بالهجرة أو التهجير، وهيمنت على مقدراته السياسية أحزاب ذات أيديولوجيات مذهبية طائفية وجد بعضها في الولاء لطهران عقيدة “مقدّسة” تعلو على مصالح شعب العراق، أشاعت الانقسام الاجتماعي وعمّقت الكراهية والثأر بين مكوناته ومنعت فرص قيام دولة مدنية جديدة وزرعت العداوات المصطنعة مع العرب تحت عنوان “دعم الإرهاب”.
لا شك أن أي رئيس حكومة في بغداد يحتاج إلى قوة إرادة يستمدها من ضميره الوطني ومن الشعب العراقي لكي يواجه حملات التشويش والتشويه لعلاقة الرياض ببغداد، ولم تمر ساعات على زيارة عبدالمهدي للسعودية حتى انطلقت أصوات التشكيك ونبش الماضي من قبل برلمانيين ينتمون إلى كتل شيعية موالية لطهران حيث طالب رئيس كتلة منظمة بدر بـ”ضرورة حسم نوايا الجانب السعودي للعراق بما ارتكبته بحق الشعب العراقي وأن يكون حسن النية على أرض الواقع. إن تبادل الزيارات والاتفاقيات لا بد من أن يصب في مصلحة الشعب العراقي. والبلد يمر بوضع خدمي متردٍّ وتفشي البطالة وعلى الحكومة العراقية حل مشاكلها الداخلية قبل الانفتاح على الخارج”.
مثل هذه التصريحات تحاول وضع العصي أمام أية خطوة تخدم شعب العراق، فماذا حصل بين العراق والسعودية بعد عام 2003؟ ألم تحدث حرب طاحنة بين العراق وإيران 1980 – 1988 راح ضحيتها أكثر من مليون قتيل والآن العلاقات مزدهرة بين البلدين؟ ثم هل إن العلاقات بين الدول وفق مصالح طرف دون آخر؟ وهل إن مشاكل العراق تمنع عن حكومته التطلع إلى الانفتاح إلى الخارج، أم إن المطلوب هو الانفتاح والخضوع لإيران فقط؟
القوى السياسية الموالية لإيران في أزمة حقيقية، ولم يعد بمقدورها التغطية على حجم الأضرار التي لحقت بالعراق خلال الخمسة عشر عاما الماضية، ولقد جرّبت إيران طيلة هذه السنوات العجاف على العراقيين، فنهبت أموالهم وفككت وسرقت مصانعهم ودمرت مزارعهم، ولم تسمح لأية فرصة تنموية يمكن أن تنازع بضائعها. فلماذا لا تعطى الفرصة للحل الصحيح بالانفتاح بقوة على الدول العربية وفي مقدمتها السعودية؟
عادل عبدالمهدي لا يستطيع إغماض عينيه حول التطورات المتسارعة في إجراءات واشنطن العقابية ضد طهران وآخرها تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، وهو حدث يترك تداعيات مربكة على بعض الفصائل الشيعية المسلحة، وبالتالي فقد انتقلت العقوبات التجارية إلى عقوبات ذات طابع أمني وسياسي خطير لن يتمكن عبدالمهدي من الصمت أمامه، حتى وإن سكت أمام عبارة “يجب” لولي الفقيه خامنئي وطلبه منه اتخاذ إجراءات عاجلة ضد التواجد الأميركي في العراق.