لفرنسا طموح قديم جديد للعودة إلى التأثير في الوقائع الشرق أوسطية. تعتبر فرنسا نفسها الأولى بمعروف الولاية على كيانات سايكس بيكو المتصدعة، وخصوصاً سوريا ولبنان. خسرت فرنسا انتدابها على البلدين بفعل تحولات سياسية عالمية، وبنتيجة خلافات مع بريطانيا. لكن تأثيرها بقي رمزياً على الساحة اللبنانية في مرحلة ما بعد الحرب، من خلال الترويكا التي نشأت في لبنان، وعلاقة الرئيس الفرنسي جاك شيراك بالرئيس رفيق الحريري. ولطالما تفعّل الحضور الفرنسي في لبنان بالاستناد إلى قوة إقليمية أخرى تتعاون معها باريس، فتحظى بالتأثير على مجريات الأوضاع.
تاريخ براغماتي
مؤتمر سان كلو للنواب اللبنانيين، الذي عقد في فرنسا في العام 2007، لم تكن باريس لتستطيع استضافته من دون تنسيق مباشر بينها وبين سوريا حين ذاك. ولا بد من العودة بالذاكرة إلى انفتاح الرئيس السابق نيكولا ساركوزي على بشار الأسد، ودعوته لحضور ذكرى 14 تموز، كاسراً قيود العزلة على دمشق. استضافة باريس لمؤتمر سان كلو، لبحث الأزمة اللبنانية، لم تكن لتحصل لو لم تفتح خطوط التواصل مع دمشق. وبمعزل عن العلاقة العاطفية والشخصية التي جمعت جاك شيراك برفيق الحريري، وانسحبت على موقف فرنسا من الأسد، ما بعد 14 شباط 2005 وفي كل حقبة 14 آذار، طوال أيام شيراك في الإيليزيه، فإن فرنسا عرفت ببراغماتيتها السياسية للحفاظ على دورها.
تلك البراغماتية، هي التي دفعت فرنسا ذات يوم لتوفير كل مقومات الحماية لقائد الثورة الإسلامية في إيران، روح الله الخميني، وقدمت له كل الدعم والتسهيلات، وأتاحت له فرصة الاستمرار بنشاطه الداعي إلى قيام الثورة، وحتى عودة الخميني إلى قم كانت برعاية فرنسية. والموقف لم يكن صدفة، بل كانت فرنسا تعتبر أن إيران الشاه ستتغير، ولا بد من إقامة علاقة مع السلطة الجديدة، إنطلاقاً من ثابتة أن ايران هي شرطي المنطقة. وبالتنسيق معها، تبقي فرنسا على دورها وتأثيرها فيها، تماماً كما كانت سابقاً تستند على العلاقة مع سوريا للتأثير بالوضع اللبناني.
الشرط الاقتصادي
اليوم لدى فرنسا توجهات براغماتية أخرى، تنطلق من مسلّمة عدم واقعية أو صوابية النظرة القائلة بطرد إيران من المنطقة، وتضييق مناطق نفوذها وحصرها داخل حدودها. تعرف باريس أن إيران لن تخرج من امتداداتها. وفي النهاية، ستصل إلى توافق مع الأميركيين، تتكرر معه لحظة العام 2015، أي لحظة توقيع الاتفاق النووي، والذي كانت باريس من أشد المتحمسين له، وأكثر المنزعجين من الإنسحاب منه، ما أجبر شركاتها الكبرى على مغادرة السوق الإيرانية. تتجلى البراغماتية الفرنسية مع الرئيس إيمانويل ماكرون أكثر فأكثر، وهو الذي يرتكز في عمله السياسي على الاقتصاد. وهذا الاقتصاد يحتاج الى توافقات وتسويات سياسية وليس إلى مواجهات.
لذلك لعبت فرنسا أكثر من دور تهدئة مع إيران، لا سيما المبادرة التي طرحتها لوقف طهران تصنيعها للصواريخ البالستية. تتلخص القراءة الفرنسية في هذه المرحلة بأن العودة إلى الساحة الشرق أوسطية لا بد أن تتحقق من البوابة اللبنانية. فسوريا متنازع عليها بين قوى مختلفة وعديدة، فيما لبنان يبدو ساحة متروكة من قبل الخليجيين والأميركيين. بينما الروس يطمحون للدخول إليه انطلاقاً من سيطرتهم على سوريا وربطاً بملف التنقيب عن النفط، الأمر الذي تتشاركه باريس مع موسكو لبنانياً. ووفق النظرة الفرنسية لا يمكن الدخول إلى الساحة اللبنانية بشكل قوي ومؤثر وفعال، من دون علاقات جيدة مع ثلاث قوى، رئيس الجمهورية وتياره الواسع، رئيس الحكومة وتياره الواسع أيضاً، وحزب الله.
العلاقة مع حزب الله
تستند فرنسا في انفتاحها على حزب الله إلى أكثر من نقطة. أولاً، علاقتها الجيدة مع إيران. ثانياً، الدور الذي لعبه ماكرون غداة أزمة استقالة الحريري من الرياض. وثالثاً، موقف أطلقه قبل فترة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أعلن فيه أن الحزب ينسق مع دول أوروبية تصنفه على لائحة الإرهاب، وهذا التنسيق بهدف مكافحة الارهاب، وفيه جوانب استخباراتية لتفكيك الشبكات الإرهابية. كان نصر الله يومها يقصد فرنسا من بين تلك الدول.
منذ ذلك الموقف، بدأت العلاقات بين حزب الله وفرنسا تتطور، وصولاً إلى عقد لقاءات دورية بين مسؤولين من الطرفين. وانطلاقاً من ذلك، تستعد فرنسا للعب دور أكبر على الساحة اللبنانية، خصوصاً أنها تضع نفسها في خانة المسلّفة لأبرز القوى، فالعلاقة مع عون جيدة وممتازة، والتسوية الرئاسية التي حملته إلى بعبدا نسجت تفاصيلها في باريس، والأمر نفسه بالنسبة إلى تشكيل الحكومة. أما العلاقة مع الحريري فممتازة، وهي التي سلّفته مؤتمر سيدر وتحرص على تطبيقه. يبقى لدى باريس همّ أساسي في تحقيق الإصلاحات المطلوبة، ليحظى لبنان بمساعدات سيدر. وبعد فتح حزب الله لملف مكافحة الفساد، تضاعف التنسيق بين الجانبين، على نحو أصرت باريس على تحييد النقاط الخلافية في السياسة حول الإصلاحات أو مكافحات الفساد، والذهاب نحو اجراءات سريعة، لتحسين الوضع الإقتصادي.
ثلاثة مرتكزات
بالتأكيد، إن حصول لبنان على مساعدات سيدر، سيمنح باريس دوراً لبنانياً أكبر لجهة الوصاية والمراقبة، لتنفيذ مندرجات المؤتمر ومقرراته. وهذا إذا ما رُبط باستعداد فرنسا للتنقيب عن النفط اللبناني، والطموح بدخول الشركات الفرنسية إلى سوريا، فلا بد لذلك أن يقترن بدور سياسي ستؤديه باريس، من ترسيم الحدود البحرية، إلى تثبيت لبنانية مزارع شبعا، مقابل إبعاد شبح تطور الأحداث العسكرية عن الجنوب اللبناني، عبر إيجاد أجوبة وافية للقوى الدولية الأخرى، حول مصانع أو مخازن الصواريخ العائدة لحزب الله. وهذه بلا شك ستقود إلى تعميق التنسيق الفرنسي مع الحزب، وتعزيز دور باريس في لبنان، والذي يبقى قائماً على منصة ثلاثية الارتكازات، العلاقة مع الحزب والممسك بالملفات والمقرر بالسياسات، ومع الحريري الراغب بالاحتفاظ برئاسة الحكومة على قاعدة التطبيع مع الحزب، ومع الوزير جبران باسيل الطامح لرئاسة الجمهورية. والرجلان ليس بإمكانهما تحقيق ما يريدانه من دون موافقة الحزب، ما يحتّم توطيد العلاقات الفرنسية الحزب اللهية.