الصور الواردة من دمشق، والتي تظهر طوابير السيارات اللامتناهية لطالبي المحروقات، تذكّر بمشاهد عاشها اللبنانيون في فترات الحرب. أزمة المحروقات في سوريا، المتأتية من عواقب الحصار والعقوبات المفروضة أميركياً على النظام السوري وإيران، تدفع بالسائقين السوريين للتوجه إلى الحدود اللبنانية، سعياً للحصول على البنزين والمازوت من لبنان. الأمر نفسه ينطبق على أزمة الغاز، التي تعيشها المناطق السورية، خصوصاً منها المناطق الخاضعة لسيطرة النظام. إذ تشهد أزمات قاسية لم تعشها تلك المناطق في عزّ الحرب.
الضرب تحت الحزام
تلك الحرب الخانقة التي تخوضها واشنطن ضد إيران والنظام السوري، ربما تكون أكثر وقعاً من الحروب العسكرية، ففي هذه الحرب لا يتكبد الأميركيون أي تكاليف، على حدّ تعبير الرئيس الأميركي دونالد ترامب. والسياق نفسه تنتهجه واشنطن مع حزب الله في لبنان. وكل هذه الإشارات تقود إلى خلاصة واحدة، أن الضغط الأميركي مستمر وممتد من إيران إلى سوريا وربما يصل إلى لبنان، الذي بات أيضاً يعيش أوضاعاً اقتصادية ومالية سيئة، تنذر بالانهيار، ما لم يتم اعتماد سياسات اقتصادية تقشفية وإصلاحية سريعة.
إذا ما كانت الإجراءات الإصلاحية والتقشفية ضرورية، لبنانياً، للحصول على مساعدات مؤتمر سيدر، فإن معلومات مؤكدة تقول أن واشنطن تضغط على بعض الدول االمشاركة في "سيدر"، بغية عدم الإسراع في تطبيقه. فأميركا لا تفصل لبنان عن الملفين السوري والإيراني، خصوصاً في زمن غلبة حزب الله عليه. وهناك وجهة نظر في واشنطن مؤثرة تقول أن ملف سيدر، كما غيره من الملفات، يجب أن يكون مرتبطاً بتقديم إيران تنازلات قاسية، وكذلك حزب الله، ومنها - بالإضافة إلى توفير أمن اسرائيل - القبول بتسوية حدودية برية وبحرية، ترضى عنها واشنطن قبل بدء التنقيب عن النفط. هذه المرحلة لم تحن بعد بالنسبة إلى واشنطن، التي لا تزال على حلبة "الضرب تحت الحزام".
وإذا ما كانت الأزمات المتعددة التي تعيشها البيئات الخاضعة لإيران والنظام السوري هي من تداعيات العقوبات و"قانون قيصر"، فإن تطبيق هذا القانون بشكل كامل من شأنه أن يطال لبنان بشكل أو بآخر، فهذا القانون ينص على فرض عقوبات ليس على من يتعامل مع النظام السوري فقط، بل أيضاً من يتعامل مع المتعاملين معه. وبالتالي، فإن مختلف الملفات التي يحاول لبنان أن يجد حلولاً لها، أصبحت مرتبطة ببعضها البعض، ضمن سلسلة واحدة.
تطويع حزب الله
الموقف الذي أطلقه وزير الخارجية الأميركي في جلساته الخاصة، يوم زيارته للبنان، أنه لم يعد بالإمكان التمييز بين الدولة واللبنانية وحزب الله، ليس موقفاً عابراً ولا مجرد ملاحظة هامشية. فهذا يتضمن إشارة قوية، أن واشنطن قادرة على اتخاذ إجراءات بحق لبنان، عندما تريد ذلك، وللبنانيين شواهد على ذلك في دول متعددة، منها الأزمة التي تعيشها سوريا مثلاً، وتدهور الليرة التركية قبل فترة، عندما اشتد الخلاف التركي الأميركي، ومن إيران إلى فنزويلا وغيرهما. وهذا المناخ، لا بد له أن يرتبط بشكل أو بآخر بالكلام عن انهيار الليرة، وصعوبة الوضعين المالي والاقتصادي.
وتشير بعض المعطيات إلى أن التعامل الأميركي مع الملف اللبناني، بما يتضمنه من إبقاء متعمد للأزمة الاقتصادية الحالية، له هدف محدد، يندرج في خانة تطويع إيران وحزب الله وتطويقهما. وبالطبع، لإجبار الحزب على تقديم المزيد من التنازلات لأميركا وإسرائيل، وكي لا يخرج عن الخطوط الحمراء الدولية. وفي وقت يستمر الأميركيون بالسيطرة على الوضع المصرفي والسياسي العام من خلال العقوبات، والاستقرار في الجنوب من خلال التهويل بالدمار. يستمر الضغط الأميركي على ايران وحلفائها، لتطويقهم أكثر. وتتزامن هذه الضغوط مع أزمة حقيقية في لبنان تتصل بالعجز الاقتصادي والمالي، والذي يشكل مأزقاً حقيقياً، بعد الانكفاء العربي عن لبنان، وانقطاع التدفقات المالية التي تساعد في سد العجز نسبياً.
الرسالة الفرنسية
السياسة الأميركية القائمة على التضييق والخنق، هدفها النهائي إضعاف إيران وجرّها إلى طاولة المفاوضات، والتنازلات. وهذه السياسة تشمل لبنان كما سوريا، لإظهار هشاشة "الحواضر" الايرانية، وصعوبة أوضاعها. وبما أن الملفات كلها أصبحت مرتبطة ببعضها البعض، جاءت الرسالة الفرنسية قبل أيام، تطلب موافقة لبنان على مبادرة ترسيم الحدود، بما يتوافق مع الرغبة الأميركية. وحسب المعلومات، فإن فرنسا، التي لديها علاقات جيدة مع إيران وتنسيق مستمر مع حزب الله، تستعد لإطلاق مبادرة جديدة، تتعلق بترسيم الحدود، مع تأكيد لبنانية مزارع شبعا. وهنا سيكون الربط بين الاستجابة اللبنانية للمبادرة وبين مساعدة لبنان للحصول على مساعدات سيدر.
وهذه رسالة أساسية كان يجول السفير الفرنسي في بيروت ناقلاً إياها إلى المسؤولين اللبنانيين. لكن بعض المعلومات تكشف أيضاً أن فرنسا نقلت رسائل أميركية وإسرائيلية تصعيدية للبنان، تتعلق بمصانع ومخازن الصواريخ التي يمتلكها حزب الله، على نحو يندرج أيضاً في خانة الضغط المستمر، لا سيما أن الرسالة الإسرائيلية توحي أن نتنياهو حصل على ضوء أخضر أميركي لأي عمل يؤدي إلى تدمير هذه المواقع والمخازن والمصانع.