رغم ان الجلسة النيابية التي عقدت أمس، كانت تشريعية، ومخصصة لدرس وإقرار القانون المتعلق بخطة الكهرباء على مشاريع قوانين لمدة أخرى، فقد خطفت الإجراءات التقشفية المتداولة بين مختلف الأوساط السياسية والشعبية، الأضواء في تلك الجلسة واحتلت الحيز الأكبر من مداخلات النواب، التي تحصل عادة قبل انتقال المجلس إلى درس جدول الأعمال، ما يدل على الإرباك الحاصل بين أهل السلطة من جهة، وعلى التباين في وجهات النظر من جهة ثانية وعلى مدى الخوف من تداعيات إجراءات محتملة تقدّم عليها الحكومة على الاستقرار الداخلي من جهة ثالثة.
وقد عبّر وزير الخارجية جبران باسيل بصدق وشفافية عن الحالة التي تسيطر على السلطة التشريعية عندما كشف بعد الجلسة عن حالة الإرباك تلك ومن ان المداولات السرية التي تجري بعين أصحاب القرار من رؤساء وأحزاب وكتل نيابية تختلف عمّا يُحكى وينقل في وسائل الإعلام.
وبدلاً من ان يثير الوزير باسيل من تصريحه السابق الذي اثار ضجة واسعة في أوساط موظفي القطاع العام، وقامت الدنيا ضده ولم تقعد بعد أن أصر على موقفه وقال للصحافيين: «قلت ما قلت عن موضوع الرواتب وهذا أمر يتطلب صراحة وجرأة ومسؤولية وطنية، كاشفاً عن ان ما قصده هم الموظفين الذين يتقاضون رواتب عالية جداً، وهم معروفون جيداً من الإعلام والاعلاميين ومن شريحة واسعة من اللبنانيين، ولم اقصد الموظفين ذوي الداخل المحدود».
وشدّد الوزير باسيل على انه عندما اقترح خفض الرواتب لبعض موظفي القطاع العام جاء ذلك من ضمن سلّة متكاملة تشمل خمسة أمور هي: حجم الدولة الذي يُشكّل جزءاً يسيراً من الموضوع وخدمة الدين والتهرب الضريبي، والكهرباء، والضرائب التي يُمكن ان تستوفى من الشركات ومن أصحاب الجيوب الكبيرة.
وكما هو متوقع جاء موقف وزير الخارجية منسجماً مع موقف رئيس الحكومة في بعض جوانبه ومختلفاً عنه في وجوه أخرى لا سيما تلك التي تتعلق بتخفيض رواتب موظفي القطاع العام بحيث أكّد الرئيس الحريري على ان كل ما يُحكى عن تخفيضات هو كلام صحف، لكنه أكّد في المقابل على ان المزايدات لا ولن تفيد أحداً لأن البلد إذا سقط فسنقع كلنا معه وانه في حال لم نتخذ قرارات تقشفية حقيقية قد نصل إلى كارثة حقيقية وأنا من واجبي كرئيس حكومة ان أكون صادقاً مع النّاس وان اشرح لهم الوضع الحقيقي الذي نحن فيه فإذا لم نتخذ إجراءات تقشفية حقيقية ونقوم بخطوات أساسية سنصل إلى مكان لا تحمد عقباه، والمطلوب منا كحكومة موازنة أكثر تقشفية بتاريخ لبنان لأن وضعنا المالي لا يسمح لنا بزيادة الانفاق التي حصلت فيها مشكلات في هذا الشأن، لذلك يجب ان تكون صادقين مع المواطنين ومع العسكريين ومع إدارة البلد وإذا بقينا على هذا النمط سنصل إلى كارثة!
اما وزير المال علي حسن خليل، فحاول في موقفه ان يكون وسطاً بين موقف رئيس الحكومة وموقف وزير الخارجية، فأعتبر ان ما يُحكى عن خفض رواتب موظفي القطاع العام ليس وارداً في مشروع الموازنة الذي اعده، لكنه في ذات الوقت لم ينفِ ان يكون هذا الموضوع مطروحاً على النقاش من جملة الإجراءات التي تفكر الحكومة بإتخاذها لخفض العجز في الموازنة العامة، مما يدل بوضوح على ان موضوع خفض رواتب موظفي القطاع العام لم يكن مجرّد «بالون اختيار» اطلقته الحكومة، بقدر ما هو مطروح على بساط البحث الجدي كأحد الروافد الأساسية التي تساعد الحكومة على خفض العجز في الموازنة بالنسبة التي ترى انها كافية لتجنب حصول الكارثة، بالإضافة إلى سلسلة إجراءات أخرى أشار إلى بعضها وزير الخارجية جبران باسيل. وبذلك يبدو واضحاً من خلال مواقف المسؤولين المعلنة ان الحكومة تعيش عملياً أزمة كبرى نتيجة غياب الرؤية الواحدة بالنسبة إلى السياسة التقشفية المطلوب اعتمادها من قبلها والتي من شأنها في حال وضعت موضع التنفيذ ان تحول دون وقوع الكارثة التي حذر منها رئيس الحكومة، والمقصود بها الإفلاس كما حصل في اليونان، فضلاً عن خسارة لبنان للمساعدات التي اقرها المجتمع الدولي في مؤتمر «سيدر» والتي تفوق الـ11 مليار دولار أميركي في المرحلة الأولى وفي حال استجابت حكومته للشروط الموضوعة وفي مقدمتها الإصلاحات في الكهرباء، وفي بنية الدولة العامة وفي غيرها من الإصلاحات المتعلقة بالقطاع العام. ويبقى السؤال هل تجرؤ الحكومة على الاقدام على خطوات موجعة للشعب كما هو متداول حالياً أم انها ستظل تدور في حلقة مفرغة إلى ان يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.