بالتأكيد، ليست المرة الأولى التي يُطرح التدبير الرقم 3 على بساط البحث. آخر جولة نقاش فيه حصلت في آذار العام الماضي، عشية البحث في موازنة 2018، لكن رأي المؤسسة الأمنية والعسكرية وتوجّه القوى السياسية قادا الى تأجيله.
لكن، التأجيل لم يعنِ غض النظر. ثمّة وجهة نظر خارج الأروقة العسكرية تفيد أنّ تطبيق التدبير الرقم 3 بات يحمل في طيّاته قلّة عدالة تساوي المستحق بغير المستحق، والمطلوب إعادة العمل بتطبيقه وفقاً لحاجة المؤسسات الامنية والعسكرية و«مصلحة» موازنة الدولة. ويتقاطع هذا الرأي مع معظم توجّهات القوى السياسية.
يعود تطبيق التدبير الرقم 3 (يعكس نسبة الخدمة ودرجة الاستنفار ويسمح للعسكري بموجبه بأن يتقاضى تعويض نهاية الخدمة عن كلّ سنة ثلاث سنوات بعد 18 عاماً خدمة، وتستفيد منه كل الأسلاك العسكرية) الى عام 1975، ربطاً بظروف الحرب الأهلية آنذاك، حيث مُنح العسكريون ضمائم حربية تعادل ضعفي مدة الخدمة، وبقي الوضع على ما هو عليه حتى اليوم. وكانت المؤسسة العسكرية بكل قطعاتها العملانية طوال السنوات الماضية في حالة استنفار وجهوزية لحفظ الامن، مع رأي غالب ضمن الجيش كان يفيد أنّ «حالة الاستنفار» وانعكاسها على تعويضات العسكري، فرضتها الحاجة الى تأدية المهمات بحسب متطلبات الأرض وحالة الجهوزية، حيث واجه لبنان بين حدوده والداخل أخطاراً كبيرة ومصيرية، ولم تكن في إطار «تنفيع» العسكريين.
هذه وجهة نظر، تقابلها أخرى تفيد أنّ هناك الآلاف من الضباط والعسكر استفادوا بلا وجه حق من التقديمات الإضافية التي يمنحها الالتزام بالتدبير الرقم 3.
يتساءل أصحاب هذه المقاربة، «كيف يمكن مساواة ضابط خدم لسنوات على الحدود أو عرّض حياته للخطر مع ضابط آخر أمضى القسم الأكبر من خدمته العسكرية متنقلاً بين المكاتب؟ وكيف لضباط وعسكر خدموا الى جانب سياسيين من رؤساء ووزراء ونواب أن يستفيدوا من التدبير الرقم 3؟». هذه الأسئلة تُطرح في «مطابخ» الساعين الى خفض عجز الموازنة حتى لو عبر المسّ بجيوب العسكر!
زلزال صامت!
إذا كان تحرّك العسكريين المتقاعدين قد انفلش نحو الشارع، فإنّ «زلزالاً» صامتاً يضرب المؤسسات الأمنية والعسكرية بلا أي ردة فعل ظاهرة، حيث تقتصر المداولات وجولات «النق» في شأن التدبير الرقم 3 في الغرف المغلقة.
رأي قيادة الجيش هو محوري في هذا الملف، والإتجاه الذي ستسلكه تتأثر به الأجهزة الأمنية الأخرى. بعدها يكون للقرار السياسي الكلمة الفصل وصولاً الى رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلّحة الخاضعة لسلطة مجلس الوزراء.
ويبدو أنّ إلغاء هذا التدبير، أو حصر تطبيقه بقطعات عسكرية محدّدة، لن يمرّ بسهولة في ظل وجود اعتراضات جدّية، بات الرؤساء الثلاثة في «جوّها»، وهي مدعومة بدراسات مقارنة، تُظهر الغبن اللاحق برواتب العسكر وتعويضاتهم مقارنة بالموظفين المدنيين، حتى في ظل تطبيق التدبير الرقم 3.
أما الظلم الأكبر، فحين ارتضى هؤلاء القبول بـ «زودة» ضمن سلسلة الرتب والرواتب أقل من بقية الأسلاك، بسبب استفادتهم من التدبير الرقم3، واليوم ثمّة من يلوّح بحرمانهم من مكتسباته!
إلغاء التدبير الرقم 3 سيعني تلقائياً خفض نسبة الجهوزية، إضافة الى التغيير في ساعات الخدمة. وفي ظل واقع قيام الجيش أيضاً بمهمات هي من صلب عمل قوى الامن، وفي موازاة تحذيرات دولية مستمرة من الخطر الارهابي الذي لم ينته تماماً، مع احتمال تسلّل عدد من مسلحي إدلب المتطرّفين الى الداخل، ووعد الحكومة بمواسم سياحية «ولعانة»، وبوجود ما يربو الى مليون ونصف مليون نازح سوري، و500 الف فلسطيني في المخيمات، وارتفاع نسبة الجريمة... يصبح لخفض نسبة الجهوزية تأثيرات سلبية يعرف أهل الأمن تبعاتها جيداً.
وتسأل مصادر عسكرية في هذا السياق: «كيف يمكن تأدية المهمات المطلوبة بعديد أقل؟ هذا الامر سيؤثر تلقائياً على الامن»، مشيرة الى أنّ «الاصلاح لا يكون على حساب الامن. الاقتصاد والامن خطان متوازيان».
في كل المؤسسات الأمنية، التدبير الرقم 3 هو التعويض عن عدم وجود ساعات إضافية يقبضها العسكر بدل الخدمة الاضافية. الى ذلك، تقول المصادر العسكرية، «إلغوا التدبير الرقم 3 وأعطونا ساعات إضافية، مع العلم أنّ تعويضات نهاية الخدمة للعسكر ستفوق في هذه الحال بأضعاف تلك التي يقبضها هؤلاء بموجب التدبير الرقم 3».
كما انّ موقف القيادة العسكرية واضح في شأن احتمال تطبيق التدبير الرقم 3 جزئياً، حيث يطاول فقط القطعات العملانية والمقاتلة. إذ تؤكّد المصادر العسكرية في هذا السياق «انّ التجزئة غير مقبولة، إما يكون التدبير الرقم 3 لكل الجيش أو لا يكون. فوحدة الجيش أساسية، ومن يخدم على الحدود، مثله مثل من يخدم في الداخل. وليس هناك عسكري مستحق وآخر غير مستحق. والمعادلة بسيطة: إذا لم يمارس الضباط والعسكر الاداريون واللوجستيون المهمات المطلوبة منهم في مكاتبهم، يتعطّل عمل الوحدات القتالية والعملانية على الارض. من يعمل ليؤمّن الرواتب، والتغذية، والطبابة، والصيانة، والمتطلبات اللوجستية هو بأهمية من يعمل على الحدود وينفّذ عمليات الدهم والدوريات ويقيم الحواجز...».
بين الضابط والموظف
ويتبيّن، وفق الإحصاءات، أنّ نسبة الإداريين في الجيش البالغ عديده 80 الفاً، أقل بكثير من عناصر الوحدات المنتشرة على الحدود وفي المناطق، والتي هي في حالة جهوزية.
وبلغة الأرقام، وفق المصادر عينها، انّ إلغاء التدبير الرقم 3، وخفضه الى درجة 1 في الجيش، يوفّر على الخزينة 5 مليارات و896 مليون ليرة سنوياً، وهو مبلغ «ثانوي»، مقارنة بنسبة تأمين العسكريين 75% من الجهوزية وأحياناً كثيرة تصل الى 100% عند استحقاقات معينة، وأيضاً مقارنة بالوفر الذي يمكن أن يؤمّن من مصادر أخرى، خصوصاً تلك التي تشكّل هدراً فاقعاً. كما أنّ استبدال هذا التدبير بدفع «أوفر تايم» للعسكريين سيكلّف الخزينة أعباء مالية أكبر بكثير».
وثمة «دراسة مقارنة» أعدّتها القيادة العسكرية تُظهر مقدار الغبن اللاحق بالعسكر، في ظل تطبيق تدبير الرقم 3، مقارنة مع الموظفين المدنيين. ومثال على ذلك، انّ راتب أي قاضٍ حديث الخدمة هو 4 ملايين و700 الف ليرة، وقيمة درجته 250 الف ليرة.
أما العميد درجة رابعة، أي ما يوازي 36 سنة خدمة وأكثر، فإن أساس راتبه 3 ملايين و900 الف ليرة، وقيمة درجته 130 الف ليرة. الفارق في الراتب، في هذه الحال، بين القاضي والعميد 800 الف لمصلحة القاضي، أما الفارق في الدرجة فيبلغ 120 الف ليرة.
كذلك، فإنّ العميد درجة رابعة، يسبق الموظف فئة ثانية (درجة سادسة)، والذي يبلغ أساس راتبه 3 ملايين و600 الف ليرة، فقط بـ 300 الف.
والضابط برتبة مقدّم في الجيش (درجة سادسة) أساس راتبه مليونان و600 الف ليرة، وقيمة درجته 100 الف ليرة، أما الموظف فئة ثانية فقيمة درجته 150 الف ليرة، ما يعني أنّ الموظف يقبض راتباً أعلى بـ 940 الف ليرة وقيمة درجته أعلى بـ 50 الف ليرة من المقدّم.
أما عميد (درجة ثانية)، وفي حال لديه ولداً واحداً، فإن راتبه يبلغ 6 ملايين ليرة، فيما المدير العام، الذي يوازيه في المرتبة، فيتراوح راتبه بين 8 و10 آلاف دولار.
وثمة واقعية اليوم داخل المؤسسة العسكرية تسلّم بأنّ حصر تطبيق التدبير الرقم 3 بقطعات معينة قد يفتح المجال أمام «طلبات» ضباط «بتشكيلهم» الى النقاط العسكرية المشمولة بالتدبير، مع العلم أنه سبق أن جرت محاولة لتطبيق هذا الأمر قبل سنوات لكنها باءت بالفشل.