ما يمكن استخلاصه من نتائج الانتخابات الإسرائيلية وعودة بنيامين نتانياهو إلى موقع رئيس الوزراء أن الجمود سيستمر فترة طويلة على صعيد عملية السلام في الشرق الأوسط، اللهم إلا إذا طرحت إدارة دونالد ترامب ما يسمّى “صفقة القرن”.
تعني “صفقة القرن” بين ما تعنيه تجاوز كلّ المفاهيم التي انطلقت منها عملية السلام في مؤتمر مدريد الذي انعقد أواخر العام 1991 في العاصمة الإسبانية على أساس مبدأ الأرض في مقابل السلام وقرارات الشرعية الدولية في مقدّمها القرار الرقم 242 الصادر في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1967، مباشرة بعد حرب الأيّام الستّة.
سيكون الخيار في المرحلة المقبلة بين “صفقة القرن” والجمود، علما أنّ ليس ما يشير، أقلّه حتّى الآن، إلى معالم محددة للصفقة باستثناء اعتراف الولايات المتحدة بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وبضمّ الجولان.
ما قامت به إدارة ترامب على صعيدي القدس والجولان يشكّل تعبيرا عن نيات لا لبس فيها نحو تغيير خريطة المنطقة. فالقدس الشرقية أرض محتلة استنادا إلى القانون الدولي، كذلك الأمر بالنسبة إلى الجولان. هل سيكون مطلوبا في حال طرح “صفقة القرن” تغيير خرائط أخرى، بما يصبّ في تسوية للقضية الفلسطينية على حساب خيار الدولتين الذي لم يعد قائما؟
ما لا مفرّ من ملاحظته، منذ انعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الأوّل – أكتوبر 1991 أنّ إسرائيل عادت واعتمدت الأفكار التي كان بنيامين نتانياهو (بيبي) يؤمن ولا يزال يؤمن بها.
كان “بيبي” الناطق باسم الوفد الإسرائيلي في مؤتمر مدريد في حين كان إسحق شامير رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية في الوقت ذاته. استطاعت إدارة جورج بوش الأب جرّ شامير إلى مؤتمر مدريد جرّا.
مارس الرئيس الأميركي، ووزير خارجيته جيمس بيكر، ضغوطا على الحكومة الإسرائيلية وأجبرا شامير على المشاركة في مؤتمر مدريد المنعقد على أساس مبدأ “الأرض في مقابل السلام”. فشامير آمن دائما بالأرض وليس بالسلام، كذلك “بيبي”. ولمّا سئل رئيس الوزراء الإسرائيلي عن النتائج التي يمكن أن يُسفر عنها مؤتمر مدريد أجاب بكلّ صفاقة: “سنُفاوض من أجل التفاوض، حتّى لو استمر ذلك عشر سنوات. سنعمل على خلق أمر واقع جديد على الأرض”.
هذا ما كان يسعى إليه نتانياهو أيضا الذي يؤمن بخلق أمر واقع جديد عن طريق الاستيطان وضمّ قسم من الضفّة الغربية إلى إسرائيل بشكل نهائي. هذا ما تحدّث عنه خلال حملته الانتخابية، بل تحدّث عن ضمّ إسرائيل لكلّ الضفّة الغربية من دون الإجابة عن سؤال في غاية البساطة هو الآتي: ما العمل بفلسطينيي الضفّة؟
ما الحلّ الذي يمكن تذويبهم فيه ما دام الأردن يرفض أيّ خيار آخر غير خيار الدولتين، ويصرّ على أن تكون القدس الشرقية بمقدساتها المسيحية والإسلامية تحت رعايته؟ ما العمل بغزّة؟ هل صحيح أن حلولا ستطرح في إطار توسيع مساحة القطاع في اتجاه سيناء بموافقة مصرية في ظلّ تغطية أميركية؟
من الواضح أنّ المرحلة المقبلة ستكون في غاية التعقيد. هذا لا يمنع من مواجهة الحقائق الجديدة التي وُلدت على الأرض بعد مؤتمر مدريد، وقبل ذلك بعد رحلة أنور السادات إلى القدس في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1977 ومؤتمر كامب ديفيد في أيلول – سبتمبر 1978 وصولا إلى معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في آذار – مارس 1979، أي قبل أربعين سنة وشهر بالتمام والكمال.
وحده الأردن بقيادة الملك حسين، رحمه الله، فهم ما يدور في المنطقة منذ ما قبل انعقاد مؤتمر مدريد وذلك عندما اتخذ قرارا بفكّ الارتباط مع الضفّة الغربية في تموز – يوليو 1988، ومهّد لانتخابات نيابية تقتصر على الضفّة الشرقية في اليوم الذي كان يسقط فيه جدار برلين، وتنتهي معه الحرب الباردة، في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1989.
بعد توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض والمصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحق رابين في ذلك اليوم من أيلول – سبتمبر 1993، كان مفترضا في الفلسطينيين الإسراع في التوصل إلى تسوية، حتّى لو كانت مجحفة وذلك من أجل إقامة كيان فلسطيني يضمّ الضفّة وغزّة. كان من الأفضل لو استفاد ياسر عرفات في تلك المرحلة من وجود إسحق رابين في موقع رئيس الوزراء ومن اتفاق السلام الأردني – الإسرائيلي الذي وُقّع في وادي عربة في تشرين الأوّل – أكتوبر 1994. لم يحدث شيء من ذلك.
لم يطرح الجانب الإسرائيلي، بمن في ذلك إيهود باراك في السنة 2000 أي صيغة ترضي الفلسطينيين، أو الحدّ الأدنى من طموحاتهم. لكنّ ما نكتشفه بعد انتخابات التاسع من نيسان – أبريل 2019 أن هناك إسرائيل مختلفة في ظلّ رغبة ثابتة في خلق أمر واقع على الأرض راهن عليه إسحق شامير وبنيامين نتانياهو منذ انعقاد مؤتمر مدريد.
استطاعت إسرائيل، طوال تلك السنوات الاستفادة من عوامل عدّة جعلت المجتمع فيها يتجه أكثر نحو اليمين. من بين هذه العوامل العمليات الانتحارية التي نفّذتها حركة “حماس”، خصوصا في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو، والخطر الإيراني الذي في أساسه إثارة الغرائز المذهبية، والذي جعل الأكثرية العربية تستوعب أن المشروع التوسّعي الإيراني يشكل تهديدا مباشرا لها وللمجتمعات القائمة في دول المنطقة. جاء ازدياد الخطر الإيراني الذي ترافق مع الاحتلال الأميركي للعراق وقيام نظام جديد في بغداد يقوم على المحاصصة الطائفية والمذهبية ليضع القضيّة الفلسطينية في ذيل قائمة الاهتمامات العربية، وذلك على الرغم من كلّ ما يُسمعُ من خطب في القمم العربية.
في النهاية، سقط العراق وتفتَّتَتْ سوريا ويكاد لبنان ينهار وصارت إيران في اليمن تهدّد منه كلّ دول الخليج العربي.
ليست عودة “بيبي”، بدعم من دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، سوى تعبير عن مرحلة جديدة في الشرق الأوسط والمنطقة كلّها. عاجلا أم آجلا، سيتبيّن أن الخيار سيكون بين الجمود الذي يعشقه “بيبي” وبين “صفقة القرن”، هذا إذا كان هناك شيء اسمه “صفقة القرن”. هناك، بكل بساطة، معطيات جديدة في المنطقة وفي العالم، تفرض التفكير بطريقة مختلفة. لا بدّ من امتلاك ما يكفي من الشجاعة والاعتراف بأنّ إسرائيل التي عرفناها في الماضي لم تعد قائمة. لا وجود لأيّ اهتمام إسرائيلي بالسلام أو بالعملية السلمية، فيما الشرق العربي كلّه في مرحلة مخاض.
يبقى سؤال في غاية الأهمّية لا مفرّ من طرحه على الرغم من غياب القيادة الفلسطينية القادرة على أن تكون في مستوى الأحداث والمتغيرات. هذا السؤال هو ما العمل بالشعب الفلسطيني؟ هل يمكن إلغاء شعب بكامله موجود على الأرض الفلسطينية؟ ما يعجز “بيبي” عن استيعابه أنّ الوقت يمكن أن يلعب لمصلحة إسرائيل، لكنّه يمكن أن يلعب ضدّها في المدى الطويل في غياب تسوية تضمن الحدّ الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية ومقدارا ما من العدالة.