يرى المراقبون أنّ الافق يبدو مجهولاً على المستويين السياسي والاقتصادي، إذ انّ دينامية الشارع ستفرض نفسها شيئاً فشيئاً لأنّ الناس سينبرون للدفاع عن مصالحهم وحقوقهم وعن لقمة العيش التي يرون أنها مستهدفة، أو ستستهدف، بالقرارات الموجعة وغير الشعبية التي يلوّح بعض المسؤولين والاوساط السياسية المختلفة بأنها ستتخذ. ويضيفون انّ ما بدأ يشهده الشارع من حراك احتجاجي ومطلبي هو بمثابة هجوم استباقي لمنع السلطة من تدفيع الناس أثمان أخطائها وخطاياها في حق معيشة اللبنانيين واقتصادهم وماليتهم.
ويلاحظ المراقبون انّ هذا الحراك لا توجد خلفه قوى مُحرِّكة كما كان يحصل في حراكات سابقة، فهناك واقع مأزوم سيدفع طرف ما ثمنه في النهاية، إمّا الناس وإمّا السلطة بسياساتها الاقتصادية والمالية ومعها المصارف وغيرها من المؤسسات. ويقولون ان ليس هناك اي سابقة حصلت في العالم ان دولة أعطت مواطنيها لقمة هي حق مكتسب لهم ثم بادرت الى تدفيعهم ثمنها.
قنابل على الجانبين
في غضون ذلك، تسلك الموازنة واقتراحات إجراءاتها التخفيضية طريق ألغام من الجهتين: يميناً تنتظرها مخاوف من انفجار اجتماعي، إداري، تربوي، عسكري. وشمالاً تهديدات من مقصلة دولية وانهيار اقتصادي مالي ونقدي... والخوف كل الخوف ان تنفجر القنابل من الجانبين فيلحق لبنان اليونان والأرجنتين بلا معين.
وكشفت مصادر مطّلعة على حلقة النقاش الضيقة حول إجراءات الخفض لـ»الجمهورية» انّ «الامور اقتربت من الحسم، وهي جدية الى درجة انّ رئيس الحكومة قال في أكثر من جلسة داخلية انه لن يشهد على انهيار البلد كما انه لن يتخذ قراراً إلّا بالإجماع «فما نحن مُقدمون عليه لا يتحمّل التحفظ او التنصّل، وجميع القوى السياسية عليها ان توافق وتسير في القرارات المتخذة من دون تردد او ازدواجية في الخطاب، لأنّ المزايدات لم تعد تنفع وعلى الجميع تحمل المسؤولية وإلا لن تكون هناك موازنة».
وعلمت «الجمهورية» انّ وزير المال أجرى طوال يوم امس مراجعة شاملة لأرقام الموازنة، بناء على الجلسات الطويلة التي تعقد مع رئيس الحكومة، وآخرها الاجتماع الليلي في «بيت الوسط» والذي تمثّلت فيه كل الأقطاب السياسية في الحكومة. كذلك أعد موازنة رديفة في حال فشل التوافق على اقتراحات الخفض لموازنة عادية، لا خفض فيها للعجز وتعرض للأرقام الواقعية في ظل الوضع القائم. امّا الموازنة التي يتم البحث فيها حالياً فقد ينخفض فيها العجز من ١٢ الى ٩ في المئة وما دون، ولا تمس بسقف الرواتب الوسطي المقبول، إنما الرواتب العالية وعلى النسب والشطور ويبحث جدياً اقتراح خفض كل الرواتب العالية بحيث لا يجوز ان يكون هناك راتب أعلى من راتب رئيس الجمهورية، كذلك اقتراح تجميد نسبة ١٠ الى ١٥ في المئة من الرواتب لمدة سنتين، ويتم تقسيطها لاحقاً بطريقة مدروسة بحيث تبقى حق مكتسباً لا مساس به.
لا مجلس وزراء
وفيما يغيب مجلس الوزراء هذا الاسبوع، ينتظر ان تعقد في الساعات المقبلة، او بعد عيد الفصح على أبعد تقدير، سلسلة اجتماعات مع رؤساء الكتل النيابية في السراي الحكومي في موازاة اجتماعات في وزارة المال لتسويق الموازنة وتأمين التوافق حولها.
تقديم التوافق
وعلى وقع أولى ردات الفعل التي شهدها الشارع نتيجة حراك الضباط والعسكريين المتقاعدين أمس، والتحضيرات الجارية لإضراب موظفي المؤسسات العامة والهيئات المستقلة اليوم، وبعد ان تجاوز المجلس الأعلى للدفاع الحديث عن تقليص مخصصات العسكريين، كشفت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» أمس انه صرف النظر عن عقد جلسة مجلس الوزراء بعدما كان مقرراً ان تكون للبت بمشروع قانون الموازنة واحالته الى المجلس النيابي.
ولفتت المصادر الى انّ رئيس الحكومة سعد الحريري تفاهم مع رئيس الجمهورية على أهمية تقديم التوافق السياسي على البنود المالية المقترحة لتقليص عجز الموازنة قبل عرضها على مجلس الوزراء، وعلى اساس انّ اي تفاهم على هذا المستوى لن تقف مفاعيله عند القرار الجامع في مجلس الوزراء بل تتجاوزه الى البَت بها في مجلس النواب، فالأكثرية الحكومية هي نفسها تلك المتوافرة في مجلس النواب.
لقاءات مالية
وفي هذه الأثناء، كشفت المصادر عن سلسلة من الإجتماعات تعقد بعيداً من الأضواء، وبعضها عقده وزير المال علي حسن خليل مع المدير العام لوزارة المال ألان بيفاني والموظفين الكبار ومعدّي الموازنة، قبل الانتقال بالصيغ المقترحة الى السراي الحكومي حيث تعقد اجتماعات مماثلة بنحو شبه يومي بعيداً من الأضواء، ويشارك في جانب منها كل من رئيس الحكومة ووزير المال وعدد من الخبراء والفريقين المالي والتقني المعاون للحريري المكلّف متابعة تنفيذ قرارات مؤتمر «سيدر 1» وخبراء من اختصاصات مختلفة.
إستغراب التحركات
ونقل أمس عن أوساط حكومية ومالية استغرابها مسلسل الدعوات الى التظاهر والاحتجاج اعتراضاً على قرارات مالية وإدارية تواكب تحضير الموازنة الجديدة وهي لم تنجز بعد، معتبرة انّ المواقف التي اطلقها البعض ومنهم وزير الخارجية جبران باسيل لا تلزم أحداً من الحكومة ولا رئيسها ولا وزير المال، وإن كانت تعني الى الآن فهي تعني الفريق الذي يمثّله من يتكهّن بمثل هذه القرارات لا أكثر ولا أقل.
المجلس والكهرباء
الى ذلك ينعقد مجلس النواب اليوم في جلسة عادية، وستعبر فيها خطة الكهرباء وسط توقعات ان يتم إقرارها بطريقة سلسة بلا خلافات، خصوصاً بعدما طُرحت في لجنة الاشغال وتم إدخال تعديلات عليها بما يعادل نسبة 90 في المئة من الثغرات التي اعترتها، على حد تعبير مصادر نيابية بارزة.
وعلم انه تمّ استبدال النقطة «ب» من الاقتراح الحكومي بعبارة تقول: «تطبّق أحكام قانون المحاسبة العمومية وسائر النصوص ذات الصلة بأصول التلزيم للمناقصة، باستثناء تلك التي لا تتفق مع طبيعة التلزيم والعقود موضوعها، في مراحل إتمام المناقصات لجهة عقد شراء الطاقة PPA».
المناطق الاقتصادية
والى ذلك، من المتوقع أن يثير البندان 5 و6 من جدول أعمال الجلسة التشريعية خلافاً بين الكتل النيابية، في ضوء رفض كتلة «المستقبل» إنشاء مناطق اقتصادية غير تلك الموجودة في طرابلس، في حين أنّ جدول الأعمال يتضمن اقتراحَيْ قانون، يرمي أحدهما الى انشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في قضاء صور (محافظة لبنان الجنوبي)، ويرمي الثاني إلى انشاء المنطقة الاقتصادية الخاصة في قضاء البترون.
باسيل والجبير
من جهة ثانية وعلى صعيد العلاقات اللبنانية ـ السعودية، قالت مصادر سياسية لـ»الجمهورية» انّ «وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير بادَر في موسكو الى لقاء باسيل أمام الاعلاميين فور انتهاء اللقاء العربي - الروسي للتعاون المنعقد في دورته الخامسة في العاصمة الروسية. وقد استكمل هذا اللقاء الى مائدة غداء. وعلى رغم من تكتم باسيل عن مضمونه، فقد علمت «الجمهورية» انّ وزير الخارجية تحدّث بكثير من الايجابية عن لقائه بالوزير السعودي، وفهم منه انه متفائل في مجال تطوير العلاقات اللبنانية ـ السعودية على مستويات عدة، أهمها المستوى السياحي.
وكان باسيل قد ألقى كلمة لبنان خلال اللقاء العربي - الروسي، فاعتبر «انّ لبنان اليوم مسؤولية عربية ودولية، وليست مسؤولية روسيا وحدها مساعدته على تحقيق العودة. وهو يناشدكم لمساعدته، فلا حل بمعزل عن الحضن العربي؛ أعيدوا سوريا الى الجامعة، ولنعمل معا لإعادة النازحين الى سوريا، ولتكن الجامعة العربية «أم الصبي» والمبادر الأول الى معالجة المشكلات العربية ونطلب عندها مساعدة روسيا، ومن يريد مساعدتنا، فليساعدنا على إيجاد الحلول وليس على خلق المشكلات. ولتكن سوريا أول الحلول، ولنبدأ بعلاج الجرح السوري وخَتمه نهائياً لأنّ لائحة مشكلاتنا طويلة وصعبة. تنتظرنا ليبيا واليمن وعلينا المبادرة، وفلسطين على شفير الضياع وعلينا المبادرة، والسودان والجزائر ليسا في أفضل حال».
«القوات اللبنانية»
وتعليقاً على مواقف باسيل، شددت مصادر «القوات اللبنانية» لـ»الجمهورية» على «ضرورة ان يميِّز كل وزير يشارك في مؤتمرات ومحافل دولية بين موقفه الحزبي، في حال كانت الدعوة موجهة إلى حزبه، وبين موقفه الوطني في حال كان يمثِّل لبنان الرسمي. فهو حر في موقفه الحزبي، ولكنه ليس حرّاً في موقفه الرسمي الذي يجب ان يعكس موقف الحكومة مجتمعة».
وأسفت المصادر «لإصرار باسيل على التعبير عن موقفه الحزبي من موقعه الرسمي كوزير لخارجية لبنان، حيث انّ مناشدة العرب لإعادة النظام السوري الى الجامعة العربية لا تعبّر عن موقف الحكومة مجتمعة، فهذا النظام غير موجود وكل التطورات والأحداث تثبت ذلك. وعَدا عن أنّ باسيل يثير مسألة خلافية جداً بين اللبنانيين، فهو يخرق سياسة «النأي بالنفس» ويضع لبنان في مواجهة مع المجتمعين العربي والدولي، ويحاول اختصار موقف الحكومة بموقفه الشخصي وخياراته السياسية، الأمر غير المقبول على الإطلاق، خصوصاً انّ هذا التجاوز ليس الأول من نوعه، وهذه السياسة لا تفيد لبنان الذي هو أحوج ما يكون الى وحدة موقف سياسي لتجاوز أزمته الاقتصادية، وليس بفتح الملفات الخلافية بحجج واهية».