لم تكن نسبة المشاركة في انتخابات طرابلس الفرعية، أمراً مفاجئاً. مشاهدة الاحتفالات المفتعلة، التي ركّز تيار المستقبل على إشاعتها في المدينة، وحدها تكفي لتبيان هول ما جرى. عملياً، لم تخض ديما جمالي معركة انتخابية حقيقية. فوزها كان أشبه بتزكية، ولا تحتاج إلى كل هذه البهرجة. لكن افتقاد الحقيقة لمعناها، تدفع محتاجيها إلى ادعاء امتلاكها. لم يجد تيار المستقبل أمامه غير إعلان "الانتصار" في معركة غير قائمة ولا موجودة. احتفالات النصر هذه كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار. فانتهز فرصة إعادة جمالي إلى البرلمان، ليعتبرها فتحاً مبيناً يعوّض كل الانتكاسات السابقة.
خسارة النفس
يحتاج أداء "المستقبل" في هذه الانتخابات، وكيفية إدارتها وتعامله مع جمهوره، إلى بحث هادئ وعقلاني، ليس الدافع إليها سوى الغيرة على هذا التيار وما يمثّل، والحرص على وجوب حماية الرئيس سعد الحريري لنفسه. فعندما اتسعت رقعة زعامة "المستقبل" سنّياً ووطنياً، كان ذلك نتاج مجموعة عوامل سياسية، وعصبية سيادية، في مواجهة خطر "الشمولية"، التي كان يكرّسها حزب الله مع بيئته وجمهوره، وكذلك التيار الوطني الحرّ.
إحدى نقاط القوة التي تخلّى عنها "المستقبل" كان في إذعانه لنموذج حزب الله: تنميط الطائفة ككتلة صماء. قوته كانت في رفضه لهذا التنميط، مذهبياً أو سياسياً. قوته كانت في التنوع والرحابة. ولطالما اتسع انتشاره، وتعززت زعامة سعد الحريري، بفعل مواجهة هذا التنميط بالذات، ومواجهة ما كان يصفه حينها "قمع حزب الله للرأي الآخر". الأمر نفسه يسري على التيار الوطني الحر. كانت ميزة "المستقبل" أو الجسم الأوسع لقوى ١٤ آذار، في تعدد المشارب والأهواء وتفاوت الآراء، وفي تجاوز الحساسيات الطائفية.. كان الخطاب الديموقراطي والمنفتح أحد ركائز قوة هذا العمل السياسي وجاذبيته، على الرغم من افتقاره (كما تبين لاحقاً) للتنسيق والتخطيط. كانت قوة "المستقبل" في أنه تيار عابر للطوائف، وبات منذ قبوله بالانحسار إلى "تمثيل السنة"، بالكاد يستطيع إقناع نفسه والآخرين أنه "أبو السنّة".
منذ دخوله في التسوية الرئاسية، بدأ الحريري بخسارة نفسه، وبدأ تياره بخسارة قوته المتمثلة في مبدأ التنوع ضمن الوحدة. تلك الخسارة كانت نتاج خطوة تنازلية قاسية أقدم عليها الحريري. فلم يكن في وارد القبول بأي اعتراض. ولذلك سلك نهج حزب الله والتيار الوطني الحرّ، في تخوين أي معارض، وتهشيم أي متمايز. ولم يتوان التيار الازرق عن اللجوء إلى جيوش الكترونية، تسوق لأي خطوة يقدم عليها، من دون أي نقاش او تفكير، وتهجَّم على من يعارض هذه الخطوة وأي خطوة أخرى، من دون أي اعتبار أو تدبير.
إلى جانب هذه الخسارة الفادحة، والتي تقضي على روحية "المستقبل"، نضيف الخسارات المتراكمة بفعل مسلسل التنازلات المتتالية، وعدم اتضاح الرؤية السياسية، التي يريد الجمهور أن يسير وفق تطلعاتها. فهذا الجمهور خرج قبل أشهر من معركة شرسة في الانتخابات العامة، كان يواجه فيها كل الذين عاد وتحالف الحريري معهم في الانتخابات الفرعية! هذا التناقض مثلاً لا ينفصل عن الشعارات السياسية التصعيدية، التي يرفعها الحريري ومسؤولو التيار، عند كل محطة انتخابية لتجييش الناس، ولا تلبث أن تذهب أدراج الرياح فور الانتهاء من الاستحقاق.
الوعود الخائبة
ليس جمهور المستقبل خصوصاً، والسنّة عموماً، ضحية هذه الخطابات الشعبوية فقط، والتي تبدو فارغة من أي مضمون.. بل هو أيضاً ضحية وعود اقتصادية وإنمائية تتكرر منذ عشر سنوات، وحيال طرابلس تحديداً، من "المنطقة الاقتصادية الخالصة" إلى فرص العمل، وغيرها من المشاريع الكبرى، التي سرعان ما يصطدم الناس بحقيقة خوائها، مرة تلو الأخرى، إلى حدّ تعبير الناس، على نحو هازئ، أن طرابلس وحصتها قد نقلت إلى البترون، في موقف امتعاضي وناقم من علاقة الحريري بالوزير جبران باسيل، وما يحققه الأخير من مشاريع لمنطقته، كانت سابقاً على دفتر وعود الحريري.. الممزقة أوراقه.
حملات التجييش التي شنّها المستقبل بكامل عتاده وعديده، وبترتيب الزيارات إلى المدينة، من قبل آل الحريري والرئيس فؤاد السنيورة، كلها لم تنجح في تحفيز الناخبين على المشاركة، وهذا كان التحدي الأساسي أمام "المستقبل"، الذي كانت أرقام إحصائياته وتوقعاته تشير إلى أن نسبة المشاركة المتوقعة في العملية الانتخابية لن تتخطى عشرة في المئة. وهذا كان التحدي الأساسي، وليس فوز ديما جمالي. وفي هذا التحدّي بالذات خسر "المستقبل".
الاعتراف بالهزيمة واجب، هذا إذا كانت الغاية الاستمرار وتصحيح الأخطاء، بينما التعالي عنها والهروب منها، كما كان يحدث دوماً، فنتيجتهما ستكون واضحة، وربما أسوأ مما تبيّن في الانتخابات العامة والفرعية. أما الإدعاءات الانتصارية من قبل "المستقبل"، فهي نتاج مقولة: "فليسعد النطق إن لم يسعد الحال". مقولة لا يمكن تسويقها ولا بوسعها محو الخيبة الناتجة عن أزمة الخيارات السياسية، المنكفئة عن القضايا الكبرى. سياسة قرارات مناقضة للشعارات. سياسة أداء مناقض للغة. سياسة استغباء الناس. وهذا ما تبدى أمامهم وهم في أسوأ ضائقة: فلا يجدون سياسة ولا مالاً.
التحدي الثابت
خلاصة ما يجري أن مؤشرات التسوية التي أبرمها الحريري ليست مشجعة على الإطلاق لدى السنّة. ولذا، هم لا يشعرون أن لدى الحريري ما يحفّزهم على المشاركة السياسية. وهذا بالضبط ما يؤدي إلى استمرار استنزافه هو وتياره. وهنا لا بد من تذكيره، بأن ما يطلبه خصومه (المحليين والإقليميين) دوماً: إنهاء حالته، أو بالأحرى تصفية "الحريرية" برمتها، إما بالقوة سابقاً، أو بالحرب الناعمة حالياً. والتحدي المفروض على الحريري ثابت ولا يتغير، وهو مواجهة كل محاولات الاستحواذ على السلطة (والدولة والبلد) من قبل باسيل وحزب الله.
ما يريده جمهور الحريري هو أن يكون زعيماً، لا مجرد موظف برتبة رئيس حكومة، مضطر دوماً للدفاع عن صلاحياته.