إلى وقت قريب، ظل المرشحون في انتخابات تركيا يهنئون بعضهم البعض، عند إعلان النتائج، أيا كان الفائز، لكن الانتخابات البلدية التي أقيمت، مؤخرا، أظهرت تحولا لافتا، حيث قال حزب العدالة والتنمية، الذي يحكم بقوة، إنه سيدعو إلى إعادة الانتخابات في مدينة اسطنبول بعدما خسر حزبه حاضرة ذات ثقل سياسي وسكاني كبير إضافة إلى عاصمة البلاد.
وما دام حزب العدالة والتنمية لا يستسيغ طعم الهزيمة، فيما كان خصومه يحترمون انتصاراته السابقة، فثمة أسئلة عدة تطرح حول إيمان ما يعرفُ بتيارات الإسلام السياسي بالديمقراطية، لاسيما حين تفرز صناديق الاقتراع نتائج لا تصب في صالحهم.
لكن الخشية على الديمقراطية في تركيا ليست وليدة اليوم، فمنذ سنوات، نبه أكاديميون وسياسيون إلى أن النظام التركي انزاح كثيرا عن مبادئ الديمقراطية حتى وإن كان يؤكد التزامه بأسس الجمهورية التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك في 1923، ويتغنى على الدوام بتأييد واسع في الشارع.
ويقول أصحاب هذا الطرح، إن الديمقراطية غير قابلة للاختزال في عملية اقتراع، لأن الطرف الذي ينال الأغلبية، لا يحق له، من حيث المبدأ، أن يغير قواعد اللعبة السياسية ويقصي المعارضة ويمارس مضايقات على الإعلام والخصوم والناشطين.
وهذا الأمر لم تجر مراعاته في تركيا، بحسب متابعين، ففي غضون سنوات قليلة، تم تغيير نظام البلاد السياسي وتم الزج بعشرات الآلاف من الأشخاص خلف القضبان فيما فُصل آخرون من وظائفهم، والتهم الفضفاضة تتراوح دوما بين دعم "الإرهاب" أو الانتماء إلى شبكة رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن.
العبرة الإيرانية
تقدم التجربة السياسية في إيران دروسا معبرة حول ما تؤول إليه الديمقراطية، حين تسقط في أيدي تنظيمات الإسلام السياسي، فبعدما أطاح الإيرانيون نظام الشاه محمد رضا بهلوي، سنة 1979، عن طريق ثورة شعبية شاركت فيها جميع الأطياف، عاد الخميني إلى البلاد وأدخلها في نظام متشدد يلاحق خصومه وينكل بهم.
ويصف عالم الاجتماع الإيراني المرموق، إحسان ناراغي، الأسباب التي أدت إلى الثورة على الشاه فيقول إن أبرز محفز للناس كان هو تردي الظروف المعيشية واستفحال الفساد وانصراف الشاه إلى حياة الترف، ويضيف أن رجال الدين استغلوا هذه الحالة فحاولوا أن يسوقوا أنفسهم بمثابة بديل يلبي متطلبات الشعب.
وحين حل نظام الملالي مكان الملكية في إيران، تبددت الكثير من الأحلام التي سعى إليها من ثاروا على الشاه مثل الحرية والعيش الكريم، وهنا تحضر شهادة الكاتبة، مارينا نعمت؛ صاحبة رواية "سجينة طهران".
وتصف نعمت التي تقيم اليوم في كندا، كيف انتهى بها الأمر في السجن والتعذيب لأنها رفضت فرض نظام متشدد على المجتمع واضطهاد النساء في مرحلة ما بعد الثورة، وتصف في سيرتها الذاتية كيف أُعدم الكثيرون ممن رفضوا إدخال البلاد في دوامة التشدد.
وعلى الرغم من إجراء انتخابات منتظمة في إيران، يفرض النظام السياسي في البلاد جملة من الشروط على من يريد الترشح للرئاسة، إذ لا يستطيع أي شخص أن يترشح ويخوض غمار المنافسة على المنصب، إذا لم ينل الضوء الأخضر من المرشد، علي خامنئي.
وبموجب هذه الصيغة من الحكم، صارت الديمقراطية تُمارس في إطار ما يراه المرشد مناسبا للناس، وهو ما ينظر إليه منتقدون بمثابة وصاية وحجْر على الشعب الذي لا يحق له أن يختار من يمثله بناءً على برامج انتخابية تتبارى فيما بينها.
وإذا كانت هذه التجربة من "الإسلام السياسي" قد جرت في كنف المذهب الشيعي، فإن تيارات الإخوان حاولت أن تقدم نفسها بمثابة "قوة إصلاحية" في الوسط السني، وراهنت على أسلوب التدرج حتى تحقق مساعيها، فنجحت حينا وفشلت أحيانا.
ولم يكتف نظام إيران بفرض نموذجه المتشدد في الداخل، بل سعى إلى تصديره نحو الخارج، وظلت العلاقات بين طهران وجماعات الإخوان، محاطة بكثير من الالتباس، وقبل فترة، أثير نقاش محموم في تونس حول خطاب "غزل" من رئيس حركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي، تجاه إيران.
ديمقراطية لنسف الديمقراطية
وإذا عدنا إلى التجربة التركية، نجد أن الاستفتاء الذي أقامته تركيا في أبريل 2017، مثالا على اللحظات التي تصبح فيها ممارسة ديمقراطية تهديدا محتملا للديمقراطية نفسها، فبعدما قضى أردوغان ثلاث ولايات في منصب رئيس الوزراء (2003-2014)، قرر أن يظل في السلطة، لكن من موقع رئيس الجمهورية، ما دام نظام الحزب، لا يسمح له بأن يمكث في رئاسة الوزراء لأكثر من ثلاث ولايات.
ولأن منصب رئيس الجمهورية في تركيا ظل ذا طبيعة فخرية فقط، قرر أردوغان، أن يغير نظام البلاد السياسي من برلماني إلى رئاسي، حتى يتسنى له أن يمد رجليه في ممارسة السلطة، أما شخصيات الحزب التي أبدت نفورا من هذا النهج الاحتكاري، فانتهى بها المطاف على الهامش، على غرار رئيس الوزراء السابق، أحمد داوود أوغلو.
واستطاع أردوغان أن يكسب التأييد للتعديلات الدستورية، لكن النسبة التي فاز بها (51.41 في المئة) كانت ضئيلة فيما دأب على الفوز بفارق مريح في محطات انتخابية سابقة، ولم يستطع الرئيس التركي أن يحظى بتأييد الكثيرين ممن أيدوه في وقت سابق، لكنهم باتوا يرونه خطرا محدقا بالديمقراطية من جراء ميله إلى الانفراد بالسلطة.
في المقابل، يقول أنصار أردوغان إن الرئيس راكم تجربة ناجحة في التسيير حين كان رئيسا للوزراء، وإذا أراد الشعب أن يعاقبه فعليه أن يفعل ذلك عن صناديق الاقتراع، ويستند المدافعون في الغالب إلى عدم وجود بديل قوي عن أردوغان في ظل التحديات الكبرى التي تحيط بتركيا، على الصعيدين الاستراتيجي والاقتصادي.
لكن القول بانتفاء البديل، لا يبدو مقنعا للجميع، إذ يقول منتقدو أردوغان، إن التجارب الديمقراطية الحديثة في العالم، تعتمد بالأساس على حكم المؤسسات والفصل بين سلط البرلمان والحكومة والقضاء، أما إذا ظلت العملية السياسية تحوم حول شخص واحد، فذاك يعني أن خطر الفراغ محدق بالبلاد، وربما يذكر هذا الأمر بزمن الملكية في فرنسا حين كان لويس الرابع عشر يقول جازما "أنا الدولة".
وخلال السنوات الأولى لحكم أردوغان، تم تصوير الرجل بمثابة مثال على إمكانية نشوء تجربة ديمقراطية في كنف نظام ذي مرجعية محافظة أو ما يعرف بالإسلام السياسي، واستند القائلون بهذا الرأي، إلى حصول انتخابات "شفافة" في تركيا، وحصول تنافس بين الأحزاب في نظام تعددي، والأهم من ذلك، أنه لم يكن ثمة أي طرف يشكك في النزاهة، وهذا الأمر لم يعد قائما، في يومنا هذا.
وإذا كانت المحطات الانتخابية السابقة في تركيا قد مرت بدون اعتراض، فلأن أردوغان كان يخرج منها فائزا بشكل شبه دائم تقريبا، لكن عند أول إخفاق سياسي، قرر العدالة والتنمية أن يدعو لإعادة الانتخابات البلدية في اسطنبول، وما دام "المصباح" يشهد أفولا، منذ سنوات، فإن حالة الإنكار قد تتكرر مجددا إذا لم تجر الرياح بما تشتهي سفن أردوغان.
وتواجه تيارات الإخوان اتهامات بتبني سياسة التقية ثم التمكين، ويقول منتقدون إنها تقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية، بشكل مرحلي و"تكيتيكي"، وحينما تحسم الأمور لصالحها وتكرس وجودها في السلطة، تقلب الطاولة على منافسيها وتصورهم بمثابة متآمرين وتمعن في التنكيل بهم والتضييق عليهم.
ويذكّر ذلك بما فعلته "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الجزائر عندما فازت في بداية التسعينات بالانتخابات، وقررت أن تلك الانتخابات ستكون الأخيرة بحجة إقامة "حكم شرعي"، مما دفع الجيش إلى إلغاء نتائجها.
وبحسب هذه الرؤية، فإن تيارات الإخوان التي تعتمد على مفهوم الجماعة والأمة، تنظر إلى الخصوم بمثابة أشخاص يسعون إلى بث التفرقة، لكن دعاة الإسلام السياسي يغفلون أن ما يسمونه تفرقة وتشرذما، بعد التمكين، كانوا يصفونه بالتعدد السياسي المرغوب، قبل أن تتأتى لهم مغانم السلطة على طبق الديمقراطية.