في حلقة نقاشية خاصة يوم أمس، جمعت مراقبين سياسيين مرموقين، وتلت الانتخابات الفرعية في طرابلس، انقسمت الآراء بين فريقين، الأول اعتبر ان المشاركة الضئيلة التي لامست المقاطعة الشعبية بنسبة توازي الثمانية والثمانين في المئة، كانت رسالة اعتراض صارخة بوجه كل القوى السياسية بشكل عام على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الرديء الذي يعانيه المواطن اللبناني العادي، وشعوره باليأس الكبير من مختلف القوى السياسية، فبقي المواطن في منزله، ليس بالضرورة تلبية لقرار مقاطعة فئوية دعا اليها فريق سياسي، وانما لان المواطن شعر حقيقة بأنه ما كان معنيا بالانتخابات، ولا بالحياة السياسية كما هي اليوم. اما الفريق الثاني فقد اعتبر ان نتائج الانتخابات الفرعية، وإن كانت تمخضت عن خسارة جماعية لكل الأفرقاء المعنيين، وحتى المعنيين في مناطق أخرى من لبنان، جاءت ناقصة لا بل قاصرة لناحية الوسيلة التي عبر فيها الناس عن قرفهم من الواقع المرير الذي يعيشونه. فاعتبر أصحاب وجهة النظر هذه ان المشكلة، قبل ان تكون في السياسيين والحكام، تكمن في قدرة هذا الشعب على القبول بالمهانة والمذلة إزاء الطريقة التي تدار بها البلاد عبر النهب والسرقة واستعباد المواطن الضعيف، كما انها تكمن في الخدر الذي يعانيه اللبنانيون عموما. ويقولون في هذا المجال مثلا انه كان من الاجدى بعشرات آلاف المشاركين في طرابلس ممن بقوا في منازلهم ليعاقبوا القوى السياسية دون تمييز، أن ينزلوا الى أقلام الاقتراع ويوصلوا الرسالة المدوية بطريقة أكثر وضوحا وقوة، فيقلبوا إذا استطاعوا المعادلة هناك!
هذه عيّنة من النقاشات الدائرة في كل مكان في زمن الازمة المتسارعة الخطوات التي توشك ان تدرك البلاد عموما، لتقلب حياة اللبنانيين الى جحيم اقتصادي ومعيشي. فقد وصلت بنا الأمور الى نهايات المناورة، وكسب الوقت، وما عادت أمامنا حلول للخروج من الازمة الاقتصادية التي نحن فيها، والتي تتفاقم يوما بعد يوم، سوى البحث عن جراحات مؤلمة، وعن تدابير تشبه الى حد بعيد التدابير التي طبقت في بلدان سبقتنا الى الوقوع في أزمات من هذا النوع، مثل الارجنتين واليونان وغيرهما. والحال أن المفارقة الغريبة التي نعيشها في لبنان تتلخص في أن “الطبيب” الذي أوكلت اليه مهمة إنقاذ “المريض” هو نفسه المجرم الذي أطلق النار على الأخير! نعم، إنها مفارقة، ولا سيما عندما نسمع أن التدابير التي تطرح على طاولة البحث تبدأ من الغرف من جيوب الفقراء، بدل ان تبدأ من مكان آخر. والمكان الآخر الذي يستأهل أن تبدأ به المعالجات، ليس بالضرورة جيوب الأغنياء المستقيمين في أعمالهم، بل جيوب السارقين، أفرادا وجماعات على جميع المستويات. فإذا كان الإصلاح يبدأ من أعلى الدرج وأسفله، فإن معالجة الهدر وخفض الإنفاق العام في البلاد يبدأ من وقف السرقات الفلكية الأرقام، ثم البحث في أماكن الخلل على المستويات الأخرى، مثل النفقات الاجتماعية كالرواتب والتعويضات. ثمة بون شاسع بين اهل الحكم في لبنان والشعب، ونحن لا نشك لحظة في ان الشعب لا بد انه سيستفيق ذات يوم ويقلب الطاولة على الجميع، متجاوزا الحاجز الطائفي والمذهبي الذي يخضع له اليوم!