أثارت قصة رحيل رئيسين عربيين عبدالعزيز بوتفليقة وعمر البشير عن الحكم خلال أسبوع واحد تساؤلات وتوقعات الكثيرين من السياسيين العرب وكذلك الشعوب وبينها الشعب العراقي لما يمكن أن يحصل من مفاجآت سياسية في المنطقة. فقد عزز هذان الحدثان الآلية الحتمية لإرادة الشعوب وأن تظاهراتها مهما قمعت وشوّهت من قبل الحكام ومواليهم فهي وسيلة فعالة لتحقيق أهدافها الوطنية السامية في إزالة القمع والظلم والاستبداد والفساد، وأن الأنظمة المستبدة والظالمة لن تتمكن من الإفلات من هذا المصير ولن تحميها أنواع الرعاية الخارجية أو أدوات السلطة الأمنية والعسكرية.
الحدثان الجزائري والسوداني لم يحصلا في فترة الهياج ما سمي بالربيع العربي والذي أدى إلى نتائج كارثية في ليبيا واليمن وتونس ومصر، حيث الفوضى الأمنية وهيمنة القوى الميليشياوية وصراعاتها المسلحة في الشارع واستثمار حركة الإسلام السياسي الإخوانية للفراغ السياسي وقفزها على السلطة، مثلا في مصر بعد تنحي حسني مبارك عن الحكم عام 2011، وقبلها بأشهر في تونس بعد خلع الرئيس زين العابدين بن علي، وكذلك قتل الرئيس الليبي معمر القذافي في نفس العام، أو ما حصل في اليمن حيث الانقلاب السياسي العسكري على سلطة ما بعد علي عبدالله صالح بعد تنحيه الإجباري عن الحكم عام 2012 وفقدانه لحياته بعد غدر الحوثيين وقتله عام 2017.
الحدثان الجزائري والسوداني حصلا بقوة المؤسستين العسكريتين اللتين تدخلتا لصالح مظاهرات جماهير الشعب بعد أن غابت بوصلة التحكم السياسي للأحزاب الحاكمة أو المعارضة في وضع الحلول السياسية الخادمة لإرادة الشعب. فالجيش في غالبية بلداننا ومحيطها له الكلمة الأخيرة، رغم أن الحدث الجزائري حصل ضمن ذات اللعبة الدستورية ولا يتوقع أن ينهار الوضع هناك بسبب خوف الجميع من عودة العنف الدموي القاسي أوائل التسعينات الذي كلف الجزائريين الكثير من الأرواح والمال.
أما في السودان فقد عاد مسلسل الانقلابات العسكرية للحراك ضمن فصوله المعروفة بعد نهاية الحروب الأهلية والاستقلال عام 1956. إن أنماط الحكم في عالمنا العربي وتجاربها المرة تؤشر على حقيقتين رئيسيتين: الأولى أن الديمقراطية الانتخابية الناشئة مهما تعددت أشكالها لا تمنع التحكم والاستبداد الحزبي أو الانفراد الطائفي على قاعدة الأغلبية السكانية، وهي بدعة غريبة عن النظام الديمقراطي الحديث، لقد انكشفت تجربة الإسلام السياسي، السني أو الشيعي، الذي صدّره نظام ولي الفقيه الإيراني إلى العراق والمنطقة.
لقد فتح التحكم الحزبي بالسلطة القنوات الكثيرة لتدفق نهر الفساد حسب مناسيبه المالية لكل بلد. ففي العراق مثلاً تحدثت لغة السرقات عن مليارات الدولارات، واعتقدت الأحزاب أنها بمنأى عن حساب الشعب وغضبه عبر الاستحقاق الانتخابي المزيف، وهي متمسكة لحد اللحظة بحماية الفاسدين الذين خربوا البلاد.
الحقيقة الثانية المهمة هي أن المواصفات الشكلية للأنظمة السياسية، ملكي- جمهوري- برلماني- رئاسي، لا تعني شيئاً للمواطنين، بقدر ما تعنيهم المكاسب التي يحصلون عليها من هذا الحاكم أو ذاك، لأن الهدف الرئيسي لأي نظام سياسي هو الخدمة الحقيقية للشعب ومؤشراتها وأحجام قياساتها دائما ما تكون واضحة في حياة الناس ورفاهيتهم وحصولهم على السكن اللائق والصحة والتعليم وحماية الأسرة وتشغيل الشباب. من هذا المنطلق فإن الساعة الشعبية التي دقت لحظة الصفر للتغيير في كل من الجزائر والخرطوم يمكن أن تدق في أية عاصمة عربية حين يصل فيها الظلم والفساد مداه، وتسود حالة فقدان الأمن وهيمنة عصابات القتل والاختطاف والسرقة في كل زاوية من شوارعها.
ولا بدّ من عدم استغراب تجدد المظاهرات الشعبية العراقية بعدما لمس العراقيون نتائج الرفض الشعبي في آخر مثالين عربيين. فهل ما حصل في الجزائر أو السودان من فساد وتسلط أجهزة حزبية وحكومية على مقدرات الناس أكثر مما يحصل الآن في العراق، وهو البلد الذي ضرب الرقم القياسي عالمياً في الفساد وسرقة المال العام؟ وهل يعتقد الحكام في بغداد أن لديهم من الحصانات والسدود السياسية ما يمنع عنهم الفيضان إذا ما حصل؟ أم إنهم يعتقدون ويوهمون أنفسهم بأنهم في منأى عن مخاطر ضياع سلطتهم لأنهم انتخبوا وقد كشفت الحقائق زيف الانتخابات وتزويرها وإحجام 80 بالمئة من العراقيين عنها، كما سمع الرأي العام العراقي بأخبار بورصات ومزادات بيع المناصب الوزارية والحكومية الأخرى؟ أم إنهم ما زالوا في حلم مراهنتهم على الجماهير التي غشوها في السنوات الأولى من تسلطهم على البلاد باسم المظلومية الطائفية أو نصرة المذهب؟ فهذه الورقة قد احترقت حين خرج أهل المذهب في سلسلة التظاهرات خلال الأعوام الأخيرة ومثالها في البصرة التي قمعت بقوة السلاح واستشهد بعض شبابها واتهم نشطاؤها بالعمالة لأنهم رفعوا شعارات تدعو إيران إلى الرحيل عن بلدهم العراق وكذلك المحافظات الوسطى والجنوبية.
ولأن المتسلطين على الحكم جاهلون بالتاريخ السياسي الحديث للعراق نذكرهم بمثال واحد هو أن النظام الملكي كان فيه برلمان ومؤسسات تشريعية وتنفيذية، لكن ذلك لم يمنع الشعب العراقي من أن ينتفض ضد السياسات المرتبطة بالأجنبي ونظم المظاهرات التي أسقطت على سبيل المثال حكومة صالح جبر عام 1948، وجسر الشهداء بالعاصمة بغداد شاهد على الدماء الزكية في تلك الوثبة، وأمثلة كثيرة لا يسع المجال للرد من خلالها على الاستهانة بالحس الوطني للشعب العراقي، ووهمهم بأن سياسة الإفقار والإذلال تخرس الأصوات وتهد القامات.
كما يحاولون الترويج بأن نظامهم في بغداد مختلف لعدم وجود رمز في هرم السلطة، مثلما هو الحال في كل من الجزائر والسودان، وهذه البدعة التسويقية لا تمرر على الشعب خصوصاً الشباب في ظل نعمة التواصل عبر الإنترنت، فما استهدف في هذين البلدين العربيين هو الطبقة السياسية الحاكمة جميعها. لقد أضاعت أحزاب السلطة في العراق جميع فرص الانقضاض على أوكار الفساد وطوّقت المبادرات لحكومتي حيدر العبادي وحاليا عادل عبدالمهدي، لأنهم يعلمون أن الدائرة ستضيق عليهم.
وما زال الوهم يرافقهم في عقدة تمجيد أنفسهم بقصة “المعارضة” السابقة ضد نظام صدام خصوصاً خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية وما بعدها، وتوافقهم مع حملة الحصار والاحتلال الأميركي، ومقايضتها بالسلطة بوهم أن تلك المواقف تعوضهم عن النزاهة وخدمة الناس وعدم سرقة أموالهم وثروات بلدهم. كما أنهم مرتاحون ومطمئنون لوجستيا بعدم قدرة الجيش العراقي على التحرك وحسم معركة الشعب ضد حكمهم بسبب استبعادهم لخيرة القيادات والرموز التي أثبتت شجاعتها في معارك التحرير ضد داعش، إضافة إلى تهيئة القوى العسكرية الحزبية كاحتياط حين تضيق حولهم الدوائر.
لقد سمعت رموز النظام في العراق وأحزابه الحاكمة صوت الشعبين الجزائري والسوداني مثلما سمعه شعب العراق، ولا خيار أمامهم والخيرين منهم سوى تجرّع مرارة التغيير والدخول فيها عن طريق الإصلاح الجذري الحقيقي الشامل للسياسات والبرامج واقتحام المحظورات ودك أوكار الحيتان الكبيرة للفساد وبما يقتنع به أبناء العراق. وإلا فإن ساعة الشعب التي دقّت في الجزائر والخرطوم يمكن أن تدق في بغداد.