فالأولوية الاقتصادية فرضت نفسها، والتشبيه بين هذه المرحلة وبين حقبة الشهيد رفيق الحريري في أنه دفع حياته ثمناً لتبديته الاقتصاد على السيادة في غير محله، لأنّ البلاد في زمن الشهيد الحريري لم تكن على وشك الانهيار كما هي اليوم، كما انّ الانهيار سيجعل أولوية الناس مأكلها ومشربها وأن تنقذ نفسها قبل إنقاذ الدولة، ومعلوم انّ بعض الدول الديكتاتورية تستخدم الاقتصاد لإلهاء الناس عن الأمور الأخرى، الأمر الذي لا ينطبق على واقع الحال اليوم في لبنان، وكل القوى الأساسية مدركة خطورة هذا الوضع وتريد تجنيب اللبنانيين هذه الكأس.
والشهيد الحريري لم يسقط شهيداً نتيجة تبديته الخيار الاقتصادي وانه في اللحظة التي قرر فيها التمايز تمّ قتله، بل سقط بفعل التحوّل الدولي والإقليمي الذي بدأ مع الانسحاب الإسرائيلي من لبنان وموت حافظ الأسد وتوِّج هذا التحول مع أحداث 11 أيلول 2001 ورد فعل واشنطن بإسقاط نظامي «طالبان» و»البعث» العراقي، وبالتالي فإنّ ما أطاح بالشهيد الحريري هو تبدل كل «الستاتيكو» الذي أتى به رئيساً للحكومة عام 1992 ولمسه لمس اليد أنّ الوضع أكبر من قدرته على مواجهته.
وفي موازاة الوضع الاقتصادي ودقته، لا يمكن إهمال مزاج الناس الذين لم يقترعوا في الانتخابات للخطاب الذي يركز حصراً على سلاح «حزب الله»، بل اقترعوا لمن هو قادر على المزاوجة بين البعد السيادي والجانب المعيشي، وليس أدلّ على ذلك من الجهة المقابلة بيئة الحزب التي تُعتبر الأكثر شحناً وتعبئة، وعلى رغم من ذلك وجهوا الى قيادة الحزب كلاماً واضحاً من انهم لا يشربون ولا يأكلون مقاومة، وأنّ تأييدهم هذا الخيار لا يعني تفقيرهم وإهمال الشق الإنمائي والمعيشي الذي وصل إلى حدود غير مسبوقة في لبنان.
فالناس ملّوا من الانقسامات والنزاعات السياسية التي لا يمكن حسمها بترجيح كفة خيار على آخر، والتجربة الممتدة منذ العام 2005 وحتى العام 2014 تثبت ذلك، ويمكن الاستمرار على هذا النحو سنوات وسنوات بلا نتيجة، فيما الوضع في البلد يزداد اهتراءً وصولاً الى حد الانهيار، وهذا بالذات ما جعل أولوية الناس الاستقرار والانتظام ومكافحة الفساد، وما نفع النضال اذا كان سيؤدي الى تفقير الناس وتهجيرهم، خصوصا ان الهدف الأساس للنضال هو الناس وحريتهم وأمنهم وكرامتهم وسيادة دولتهم، وبالتالي يجب مدهم بمقومات البقاء والصمود من اجل أن يبقوا في البلد ويواصلوا نضالهم من اجله.
وهناك مَن يهوى المقارنات التبسيطية من قبيل أنّ مَن واجه الثورة الفلسطينية والوصاية السورية عليه أن يواجه الوصاية الإيرانية، ومَن يتلكأ عن مواجهة الوصاية الأخيرة يعني انه قرّر القطع مع تاريخه والاستسلام، وهذا تبسيط ما بعده تبسيط لثلاثة أسباب أساسية:
ـ أولاً، الاشتباك مع الثورة الفلسطينية بدأ مع توقيع «اتفاق القاهرة» وليس في 13 نيسان 1975، وبالتالي تمكّن لبنان من إدارة النزاع حول الموضوع الفلسطيني، ولو المتفجِّر أحياناً، لنحو ست سنوات قبل أن تنفجر الحرب بصورتها النهائية، وبمعزل عمّا اذا كان احتمال مواصلة ادارة النزاع أمراً ممكناً أم لا، إلّا أنه لا يمكن إهمال معطيات أساسية وفي طليعتها أنّ هذا النزاع أدّى الى نشوب الحرب وولادة خطوط التماس بين اللبنانيين، فهل هناك مَن يريد إحياء الحرب وخطوط التماس مجدداً؟ فضلاً عن انّ الثورة الفلسطينية ولو كانت محتضنة من قبل فئة من اللبنانيين، الّا انّ الفلسطيني يبقى فلسطينياً ولا يمكن تشبيهه بإبن البلد، اي «حزب الله»؟ فيمكن إخراج المقاتل الفلسطيني، وهذا ما حصل، ولكن هل يمكن إخراج ابن البلد من بلده؟
ـ ثانياً، الاشتباك مع الوصاية السورية حصل بفعل انقلابها على «اتفاق الطائف» ومحاولتها سورنة لبنان وإلغاء كل مَن يعارض وضع يدها على لبنان ومصادرة قراره، وبالتالي لم تفسح تلك الوصاية المجال لأيِّ خيار آخر سوى مواجهتها، فخيار المساكنة لم يكن متاحاً، فإما الالتزام بشروط المرحلة وسقفها، وإما المعتقل او النفي، ولذلك، المواجهة مع خيار من هذا النوع كانت حتمية، فضلاً ايضاً عن انّ الوصاية السورية هي احتلال خارجي شأنه مثلاً شأن الاحتلال العثماني في زمن غابر، ولا يمكن تشبيهه بخلافات أبناء الوطن الواحد.
ـ ثالثاً، الاشتباك مع «حزب الله» لا يمكن تشبيهه بالاشتباك مع الثورة الفلسطينية والوصاية السورية، لأنه اشتباك بين مكونات داخلية، وليس بين مكونات داخلية ومكون خارجي مدعوم داخلياً، وهذا الاشتباك يمكن أن يأخذ ثلاثة وجوه:
ـ الوجه الأول، أن يحسم الحزب الوضع الداخلي لمصلحته ويتحوّل حزبَ وصاية على القرار الداخلي على غرار الوصاية السورية، وهذا الأمر مضرّ من زاويتين: زاوية وجود طرف منتصر وآخر مهزوم، وزاوية عزل لبنان عربياً ودولياً، وهذا الخيار لم ينجح الحزب في تحقيقه على رغم محاولته إعادة عقارب الساعة الى ما قبل خروج الجيش السوري من لبنان، وأيّ نجاح من هذا النوع سيبقى موقتاً لأنّ الظلم لا يدوم.
ـ الوجه الثاني أن تحسم 14 آذار الوضع لمصلحتها، وعلى رغم من استحالة ذلك كون «حزب الله» يملك السلاح وفي إمكانه الدفاع عن نفسه تحت عنوان عليّ وعلى أعدائي، ما يعني إعادة إحياء الحرب الأهلية، ولكن خطورة الحسم سياسياً انه سينتج منه منتصر ومهزوم، والوضع في لبنان لا يمكن ان يستقيم سوى على قاعدة العدالة والشراكة.
ـ الوجه الثالث المساكنة القائمة اليوم وهي نتيجة الاستحالة المتبادلة، استحالة أن يحسم «حزب الله» ضد خصومه، واستحالة أن يحسم الفريق الآخر على «الحزب»، وهذا الوضع يختلف عن حقبة الوصاية السورية التي نجحت فيها بالحسم على خصومها، ولو موقتاً طبعاً، لأنّ الخلل لا يدوم، كما يختلف عن الثورة الفلسطينية التي أشعلت حرباً وادت الى تقسيم لبنان جغرافياً.
فالمساكنة في وجهها الحالي تشكل مصلحة لبنانية أكيدة في انتظار الظروف التي تسمح باستعادة الدولة خيارها الاستراتيجي، وتسمح للحزب وبيئته بالانخراط في الدولة من باب المساواة مع الجميع من دون ان يكون هذا الخيار نتيجة هزيمة سياسية، لأنه يخطئ تماماً مَن يعتقد أن في إمكانه ان يهزم «حزب الله» من دون ان يجرّ لبنان الى حرب أهلية، وكل فلسفة 14 آذار قامت على فكرة عدم العودة الى الحرب والمواجهة السلمية ولبننة الحزب والمساكنة في انتظار إنضاج ظروف عودته من مشروعه الإقليمي الى المشروع اللبناني.
والمساكنة لا تعني التسليم بخيارات «حزب الله» كما يحلو للبعض أن يصوِّر زوراً وتضليلاً، إنما تعني منع عودة الحرب الأهلية، والحفاظ على الاستقرار وإبقاء لبنان ضمن بيئته العربية والدولية الطبيعية والابتعاد عن سياسة المحاور من خلال الالتزام بسياسة «النأي بالنفس»، وهذا ما هو حاصل اليوم.
ومَن يعتقد انّ في إمكانه نزع سلاح «حزب الله» من دون جرّ لبنان الى حرب أهلية فليحاول ويخبر الناس عن أهدافه بعيداً عن المزايدات الكلامية والخطابية أو اقتصار مواجهته على المزايدة الكلامية، فيما الوضع الحالي يُعتبر مثالياً، ليس فقط مقارنة مع حقبتي الثورة الفلسطينية والوصاية السورية، بل مقارنة مع النسخة الأولى للمساكنة مع الحزب، حيث لا اغتيالات ولا استخدام للسلاح، بل الاستقرار سيد الموقف واستطراداً الانتظام المؤسساتي، وتراجع الاشتباك الاستراتيجي لمصلحة التركيز على ملفات الاقتصاد والفساد وإدارة الدولة، فيما لا يشعر أيُّ فريق على غرار زمن الوصاية أنه مستهدَف في تمثيله وحضوره ودوره، بل جاء انتخاب الرئيس ميشال عون وإقرار القانون الجديد للانتخابات ليصحّحَ التهميش المسيحي الذي إفتعله النظام السوري منذ مطلع تسعينات القرن الماضي.
وما تقدم لا يعني إقفال باب الخيارات امام مَن يريد تبنّي خيارات أخرى، فهذا حق لكل فرد أو حزب في بلد ديموقراطي مثل لبنان، ولكنّ خيار المساكنة المتوازنة كما هي اليوم، هي افضل خيار للبنان واللبنانيين في انتظار الظروف التي تزكي خيار الدولة حصراً على كل الخيارات الأخرى، لأنّ أيَّ محاولة لـ»حزب الله» لوضع اليد على البلد كما كان الحال بعد العام 2006 ستؤدّي الى عدم استقرار وحروب صغيرة من دون أن يتمكّن من تحقيق أهدافه، كما انّ ايّ محاولة لدفع الحزب الى تسليم سلاحه بالقوة ستؤدي الى التوتير نفسه من دون نتيجة ايضاً، وبالتالي الخيار الحالي الذي تجلّى مع التسوية الرئاسية هو أفضل الخيارات الممكنة للبنان، وهذا الوضع سيبقى قابلاً للاهتزاز، إنما الشطارة او الذكاء اللبناني يكمن في منع سقوطه تجنباً لسقوط لبنان في حرب جديدة.
فلكل ما تقدم من اعتبارات وغيرها طبعاً فإنّ خيار منع الدولة من السقوط يتقدم على كل الخيارات الأخرى، فالسيادة ما زالت منتهَكة منذ العام 1969، واستعادتها غير ممكنة اليوم، وهذا لا يعني إطلاقاً التخلّي عن هدف استعادتها، لأن لا استقرار نهائياً بلا سيادة، ولا دولة فعلية بلا سيادة، إنما الأولوية اليوم لوقف الانهيار الذي يطيح بالسيادة والدولة والشعب، والسيادة لا يمكن استعادتها الّا بواسطة الناس ومن أجلهم، ولذلك يجب الحفاظ على الناس من اجل التحضير لاستعادة السيادة من طريق إعادة بناء الدولة وردم الهوة بين الناس والدولة وإعطاء المحاولة الجارية كل الفرص اللازمة من أجل إيصال لبنان إلى شاطئ الأمان المالي والإصلاحي تمهيداً لشاطئ الأمان السيادي.