لم يعد الحديث عن خفض رواتب موظفي القطاع العام مجرد فكرة أو مجرد طرح يتم تداوله بالاعلام وبين جدران الصالونات السياسية، بل صار بحكم الواقع بالخصوص بعد ما رشح من تسريبات عن اللقاء الذي جمع رئيس الحكومة سعد الحريري مع وزير المال علي حسن خليل ووزير الخارجية جبران باسيل والنائب جورج عدوان وبحضور المعاون السياسي لأمين عام حزب الله الحاج حسين الخليل.
الرواتب كانت حاضرة على طاولة التشريح، ومباضع الجالسين آخذة بالتقطيع والتمزيق والتشليع، مما يعني بأن الغطاء السياسي العام صار امرا واقعا، وأن الجميع يسير بهذا الاتجاه ولو أن بعضهم يحاول التخفيف من هول القرارات المنتظرة على الموظفين من خلال تصريحات إعلامية رافضة نسمعها من هنا وهناك .
في البلدان السوية بهذا العالم، قد تكون الاجراءات التقشفية ومنها تخفيض رواتب القطاع العام أمرا مفهوما ومقبولا من ضمن خطة اقتصادية تقشفية تطال كل مرافق ومزاريب الانفاق الهامشية ومكامن الضرر بالمالية العامة بدء بموازنات الوزارات وما يصرف فيها على الكماليات والايجارات التنفيعية وصولا إلى البهورات من مواكب وسفرات بلا طعمة وغيرها .
إقرا أيضا: الشيعة في مهب الريح
هذا بدون الإتيان على ذكر السرقات والصفقات والرشاوي وغيرها الكثير من موارد الهدر لأن هذه الأمور لا تعد من ضروريات التقشف، بل هذه المزاريب يجب إيقافها والتخلص منها بعيدا عن فقر الدولة أو غناها.. ومن الخطأ بمكان ورودها ضمن خطة ما يسمى بالتقشف (مما يعني بأنه لو كان الوضع المالي مرتاحا لكانت السرقات والصفقات مسموحة) !
إن المافيا السياسية المتحكمة بالبلد منذ عقود، لطالما كانت محمية ومحصنة بجيوش الموظفين، بحيث تحولت الدولة إلى مرتع لهؤلاء وأصبح التوظيف العام هو الركيزة التي تستند عليها هذه المافيا،، وما فضيحة التوظيف الانتخابي الأخير ألا خير دليل .. فالمسؤول كلما أدخل إلى الملاك العام موظف هذا يعني أنه ضمن جنديا عنده وازداد عسكره عسكريا (الا من رحم ربي)
وعليه فإن "الدق" بجيوب الموظفين ومنافعهم ولقمة عيشهم، قد تكون بمثابة قطع حبل صرة الولاء بين هذه الاعداد البشرية الهائلة (الدولة لا تعرف عددهم بالتحديد) وبين من وظفهم وأقر سلسلتهم ورفع مرتباتهم حتى اشترى سكوتهم وأصواتهم ... وهذا ما قد يدفع بهؤلاء للتحرر من ولاءاتهم العمياء ورفع الصوت والاعتراض وانضمامهم بعد طول سبات الى الاصوات المتضررة من السياسات الاقتصادية على مر السنوات .
ومن هنا تحديدا فأنا متفائل جدا، بأن الاقدام على هكذا إجراء قد يحمل بطياته تباشير حراك حقيقي وفاعل يساهم بحل أزماتنا الاقتصادية، ليس من خلال التقشف المرتقب، بل من خلال قلع شجرة الفساد من شروشها .