وبعيداً من تبريرات المسؤولين السياسيين الممجوجة، الواضح أنّ الطرابلسيين في وادٍ والطبقة السياسية بكافة تلاوينها وأطيافها في وادٍ آخر.
وللتذكير فإنّ هذه الفجوة الهائلة لم تظهر اليوم فجأة، لا بل انّ بوادرها ظهرت مع الانتخابات النيابية التي حصلت في أيار الماضي وفق قانون جديد كان من المفترض ان يشكل حافزاً لزيادة نسبة المقترعين لا خفضها.
أول الذين تجرأوا على الاعتراف بمسار الطلاق الذي بدأ بين الناس والقوى الحزبية والسياسية كان وليد جنبلاط، الذي أقرّ بتراجع تأثير الاحزاب على الشارع.
وفي طرابلس بالأمس كان التحدي يتركز حول تأمين نسبة اقتراع مقبولة. حشدت الدولة أجهزتها، وتحالف أضداد الأمس من زعماء طرابلس وقواها. وانتقل الرئيس سعد الحريري ليقيم في طرابلس لمدة ثلاثة ايام بهدف التحشيد، وجاءت النتيجة باهتة وكرد من الناس عن سابق تصور وتصميم ضد الطبقة السياسية.
والمزاج الطرابلسي لا ينحصر بعاصمة الشمال فقط، بل هو نموذج للمزاج اللبناني الذي فقد الثقة بالطبقة السياسية وبدأ يفتش عن طريقة للانتقام.
وعلى رغم من كل شيء، فإنّ السلطة السياسية ستعمل على تجاوز رسائل طرابلس كما تعامَت عن مؤشرات ورسائل الانتخابات النيابية في أيار الماضي، متسلحة بحجة وحيدة هي أن لا بديل سياسياً عنها قد يدفع الناس للجوء اليه.
ولكن بدءاً من اليوم ستندفع السلطة السياسية في مسارٍ غير شعبي، يقول بإيجاد السبل الكفيلة بخفض العجز الهائل الذي يكاد يدمّر ركائز الدولة اللبنانية. وقد يكون من أسباب ترك طرح هذه الاجراءات الى ما بعد انتهاء الانتخابات الفرعية في طرابلس لعدم التأثير سلباً على مزاج الناخبين.
وفي طليعة هذه الاجراءات اقتراح خفض رواتب الموظفين في القطاع العام بنسبة 15%، على رغم من استمرار معارضة الثنائي الشيعي له، وإصراره على عدم المساس بسلسلة الرتب والرواتب، والبحث عن بدائل أخرى.
لكنّ الرئيس سعد الحريري يقول ان لا سبيل آخر أمام الحد من مسار انحدار مالية الدولة الى الهاوية. أضف الى ذلك عدم حسم البند المتعلق بخفض رواتب الوزراء والنواب الى النصف، كذلك رواتب النواب السابقين.
وهذه الاجراءات على أهميتها تزيد من التباعد بين الطبقة السياسية والمواطنين. فكيف للشارع أن يثق بمسؤولين هم أنفسهم تهافتوا وأقرّوا سلسلة رتب ورواتب غير مدروسة، وتسابقوا على مزايداتهم الاعلامية لأسباب انتخابية بحتة.
كما انّ هؤلاء المسؤولين أنفسهم عملوا على توظيفات هائلة تتجاوز على ما يتردد الـ 15 ألف شخص في القطاع العام قبل الانتخابات النيابية، على رغم من إدراكهم الواقع الكارثي للخزينة ومن ثم يتبرأون منهم بعد الانتخابات ويتقاذفون كرة الاتهام.
وكيف لرؤساء أحزاب وقوى سياسية أن ينظموا انتخابات نيابية تعتمد على المال والمتمولين، وتُدفَع فيها مبالغ هائلة وخيالية، ان تعترض على خفض يطاول رواتب هؤلاء النواب فيما الموظف مطالب باقتطاع جزء من راتبه المتواضع أصلاً؟
والى جانب إصدار الموازنة، هنالك إقرار خطة الكهرباء بصيغتها «المحدّثة» بعد مراوحة لسنوات عدة ولأسباب معروفة تمّت إزالتها.
هذه الخطة التي من المفترض ان تؤدي الى خفض للعجز يبدأ من مليار دولار سنوياً فور الشروع في تطبيقها، لن تشهد في مجلس النواب سوى نقاش تقني حول نقطتين اساسيتين غير واضحتين فيها، وهما ما يتعلق بطريقة تحصيل «الدَين الصعب» المترتب على مناطق لا تدفع مثل المخيمات الفلسطينية، وسرعة تجهيز شبكة النقل وإقفالها والذي يتعلق هنا بثغرة المنصورية.
ووفق ما تقدم فإنّ المسار الداخلي الصعب بدأ. صحيح انّ الاجراءات الجاري اقتراحها ستكون صعبة جداً وستشهد موجة اعتراضات واسعة حولها، لكنّ السبب الأساسي يبقى في انعدام الثقة بين الطبقة السياسية الحاكمة وبين عامّة الشعب.
ولأنّ الحسابات الانتخابية تبقى الحاضرة دائماً انطلاقاً من التبدل الواضح في المزاج الشعبي، فإنّ مناقشات هادئة تشهدها القنوات الجانبية للتواصل بين القوى السياسية حول طريقة تعديل قانون الانتخابات بما يجمع بين مصالح الطبقة السياسية والتبدلات الحاصلة على مستوى الشارع.
وفي المعلومات، فإنّ رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل طرح الانتقال من صوت تفضيلي واحد الى الحق في أن يعتمد الناخب صوتين تفضيليين.
ومن المتوقع أن يثير هذا الاقتراح عاصفة اعتراض، خصوصاً في الشارع المسيحي. ذلك انه كان قد سبق الإتفاق على صوت تفضيلي واحد نقاش واسع ارتكز في أساسه على حماية خيار الناخب المسيحي المحدود عددياً من أي تأثير للقوة الناخبة للطوائف الاسلامية.
ولكن، ومع اعتماد مبدأ «صوتين تفضيليين»، فإن هذا الأمر سيفتح الباب واسعاً أمام القواعد الناخبة للطوائف الاخرى في اختيار او ترجيح كفة مرشح ثانٍ عن المقاعد المسيحية عبر توسيع هامش الحركة أمامها. ما يعني استطراداً ضرب جوهر فلسفة الانتقال من قانون الستين الذي كان معتمداً الى قانون الاقتراع الحالي.
وفي الخلاصة أمام كل هذه الصورة، فإنّ الواقع اللبناني يتجه الى مواجهات كثيرة، ولكن الاخطر تلك الفجوة الكبيرة التي باتت تفصل بين الطبقة السياسية الحاكمة والشارع اللبناني وعنوانها انعدام الثقة.