يعرف وليد جنبلاط أن ليس بإمكان أي طرف لبناني تغيير موازين القوى. قرأ باكراً تلك الخلاصة، وقبل أن يقتنع بها الآخرون. تكوّنت لديه هذه القناعة في العام 2015، استناداً إلى معطيات محلّية وخارجية. دعا أكثر من مرّة إلى إبرام تسوية، لأن لا مجال للمواجهة ولا أفق لها. كانت النتيجة عصارة مراجعة أجراها رئيس التقدمي الإشتراكي، وعبّر عنها بموقف لافت حينها. إذ اعتبر أن بشار الأسد "على ما يبدو، باق في الحكم". طوال سنوات الثورة السورية، كان جنبلاط من أشد المؤيدين والمناصرين لها، لكنّه رتّب العلاقة مع حزب الله على أساس أن الخلاف والانقسام حول الملف السوري، لا يجب أن ينسحب على لبنان، ولا بد من إبقاء قنوات التواصل مفتوحة، كلّ من موقعه ومن مبدأ احترامه للرأي الآخر.
تسوية مفيدة للجميع
عند لحظة اقتناع الآخرين بأن لا مناص من التسوية مع حزب الله، رحّب جنبلاط بذلك، وصولاً إلى لحظة سيره بالتسوية الرئاسية، التي قضت بانتخاب الرئيس ميشال عون، وبقيت توجهاته الأساسية على حالها. استمرار العلاقة مع حزب الله، بغض النظر عن الاختلاف بوجهات النظر أو بالمواقف حيال التطورات. وقد اتخذ جنبلاط موقفاً صريحاً، ذات يوم، إذ قال "لهم رأيهم ومواقفهم، ولي رأيي ومواقفي. وأتمنى أن يبقى هذا التفاهم والتفهّم سائدين".
من مندرجات التسوية الرئاسية، تكريس انتصار حزب الله واعتراف الجميع به. وهذا أنتج تفاهماً غير مباشر بين الحزب وتيار المستقبل. فلم يعد هناك من اشتباك بين الطرفين. القوات اللبنانية بدورها ارتأت مهادنة الحزب ومسايرته، وعدم الإقتراب من إثارة ملف السلاح أو نزعه، وعدم اتخاذ مواقف مستفزّة للحزب. للحريري مصلحة في هذا التطبيع والتفاهم، فهذا ما أتى به إلى رئاسة الحكومة، وأعاد تعزيز وضعه في السلطة. القوات اللبنانية أيضاً تجد مصلحة في العلاقة مع الحزب، سواء ما يتعلّق بطموحات رئاسية، أو بالحصول على ما يشبه صك غفران من قبل الحزب، فلا يتوانى مسؤولون قواتيون عن الإشادة بحزب الله، ويسعون باستمرار للحصول من الحزب على اعتراف، ولو بسيط، أو بشكل غير مباشر، بأن القوات حزب غير متورط بأعمال فساد، ما يعني أن المردود المعنوي يهمّ القوات أكثر من أي مردود آخر.
وجها المهادنة والاعتراض
عرف حزب الله كيف يدير مواقفه، فأصبح المتحكم بكامل المفاصل السياسية، وتحوّل إلى حاجة وضرورة لمختلف القوى، التي تسعى إلى التقرّب منه. وجنبلاط كان من بين هذه القوى، ولكن على طريقته، يهادن حيناً ويمرّر مواقف اعتراضية أحياناً أخرى. صحيح أنه عند مقارنة موقف جنبلاط مع مواقف القوات والمستقبل، يسارع هؤلاء إلى تحميله كل المسؤوليات، واعتباره الساعي الأول إلى التنازل والتسوية.
على الرغم من المهادنة التي أصر جنبلاط على إرسائها، إلا أنه استمرّ في تمرير المواقف الاعتراضية، تارة تجاه إيران، وتارة أخرى تجاه الحزب، بينما لم يتراجع قطّ عن مهاجمة النظام السوري. لكن بالاستناد دوماً إلى موازين القوى. فربما قد يعتبر حزب الله أن لا أحد يمكنه توجيه رسائل اعتراضية، طالما أن الجميع سلّم بانتصاره. وقد عبّر جنبلاط ذات مرّة بأنه من غير المسموح التعبير أو الاعتراض. هذه الإشارات الإشكالية في العلاقة بين الطرفين تجلّت في أكثر من محطّة. ولها أكثر من وجه.
للإشكال بين جنبلاط والحزب، أسباب عديدة، سياسية وغير سياسية. يصل بعضها إلى حدود فرض خناق مالي على جنبلاط، بمسعى من قبل النظام السوري، الذي يتشدد بمواجهة جنبلاط. تلك المواجهة فُتحت منذ ما بعد الانتخابات النيابية، وصولاً إلى أحداث الجاهلية وما تلاها من ضغوط سورية على حلفاء النظام، لاستنهاض القوى المناهضة لجنبلاط. واستثمرت أحداث الجاهلية لتجميع هذه القوى وتنظيمها تحرّكات في الشوف. التقط جنبلاط الرسائل، وشعر أن الآتي سيكون أسوأ. فاعتبر أن ما يجري لا يصب فقط في خانة محاصرته، إنما أيضاً لا يُسمح له بالتعبير عن رأيه أو اعتراضه، إذ مع كل موقف اعتراضي كان يتخذه كان يحصل تحرك معين على الأرض. تماماً كما عندما وجه انتقاداً للجمهورية الإسلامية، معتبراً أنها تؤخر تشكيل الحكومة، فجاءه الردّ من السيد حسن نصر الله بشكل مباشر. فأيقن جنبلاط أن التعبير عن رأيه أصبح ممنوعاً، بموجب موازين القوى.
معمل عين داره
في موازاة ذلك، تلقى جنبلاط أكثر من رسالة سورية تؤشر إلى السعي للإنتقام منه على مواقفه. وهذا ما ربطه بكل محاولات الحصار السياسي الذي يتعرّض له. وليتجلى الإشكال مؤخراً في قضية معمل الإسمنت في عين داره. ولهذا الإشكال روايته التفصيلية والطويلة، حين طلب حزب الله لقاءً مع الوزير وائل أبو فاعور، خلال زيارة ديفيد ساترفيلد إلى لبنان. كان حزب الله قد سمع بأن أبو فاعور يريد إلغاء ترخيص المعمل. وظنّ أبو فاعور أن الحزب يريد اللقاء للبحث بزيارة ساترفيلد. لكنّه تفاجأ خلال الاجتماع بمطلب حزب الله عدم إلغاء الترخيص. عندها قال ابو فاعور بأن ملف المعمل فيه مخالفات، والهدف ليس إلغاء قرار كان وقّعه قبله وزير الحزب حسين الحاج حسن، كما أن للحزب معمل آخر في جنتا، لا أحد يريد الإقتراب منه. لكن حزب الله أصر على عدم إلغاء الترخيص. اتفق الطرفان على إجراء اتصالات والعودة إلى التواصل فيما بعد. لكن وفد الحزب ذهب ولم يعد بأي إجابة، وحاول أبو فاعور الاستفهام من الحزب، فلم يلق جواباً. فاضطر إلى التوقيع على إلغاء الرخصة، في الساعة الأخيرة التي يمكن لتوقيعه أن يكون نافذاً، لأن هناك مهلة قانونية أمام الوزير للإلغاء.
بالتزامن مع تلك الخطوة، كان يفترض أن يتم لقاء بين جنبلاط والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله، الحاج حسين الخليل، وحسب الاتفاق كان من المفترض أن يزور الخليل كليمنصو يوم الأحد، منذ حوالى أسبوعين. لكن الخليل اعتذر بسبب وجوده خارج بيروت، وتم الاتفاق على التواصل في اليومين المقبلين لتحديد الموعد. لكن الخليل اعتذر معترضاً على مواقف جنبلاط والإشتراكي. اعتبر جنبلاط حينها أن هناك رسالة سياسية يريد حزب الله توجيهها، إلى جانب الاهتمام البارز لدى الحزب بتسيير أعمال معمل فتوش، خصوصاً أن جنبلاط يشير إلى أن ماهر الأسد شريك في هذا المعمل، وجزء أساسي من الأموال ستكون لصالحه. ولذلك هذه الشراسة بالتمسك بالمعمل.
نحو ترتيب جديد للعلاقة
وتزامن الإشكال حول المعمل، بسلسلة مواقف أطلقها جنبلاط حيال إيران وحزب الله، معتبراً أنه لا بد من بحث الاستراتيجية الدفاعية، ودمج سلاح الحزب بسلاح الجيش، وبأن الإمرة العسكرية والأمنية يجب أن تكون بيد الجيش وحده، كما اتخذ مواقف ترفض عروض إيران للكهرباء وأمور أخرى، معتبراً أن إيران تصدّر صواريخ. وهذا ما أزعج الحزب أكثر. لذلك طلب جنبلاط مجدداً بأن يحترم الحزب الانتقادات أو الاعتراضات. لا يريد جنبلاط الدخول في مواجهة مع الحزب، جلّ ما يريده هو الحفاظ على تمايزه، واستمراره في إطلاق تعليقاته، التي لا تتعلٌّق بالمسار السياسي.
حدثت في الأيام الأخيرة اتصالات جديدة بين الطرفين، سعياً لتحديد موعد للقاء. وكان يُفترض أن يحصل اللقاء في كليمنصو، لكن الحزب عاد وطالب جنبلاط أن يزور الضاحية، لكن الأخير رفض ذلك، لأن المتفق عليه أن يكون المضيف لا الضيف في هذا اللقاء.
حتى الآن، الاتصالات مستمرّة باتجاه عقد اجتماع بين مسؤولين من الطرفين، لإعادة ترتيب العلاقة.