نشهد منذ أواخر ديسمبر 2018، من السودان إلى الجزائر موجة جديدة من الاحتجاجات العربية يبدو أن مصيرها مرهون بتطور الصلات بين المؤسسة العسكرية من جهة، والحراك الثوري الشعبي الذي يشكل الشباب عصبه من جهة أخرى. وإذا راقبنا في البدايات وعياً واستخلاصاً لدروس تجربة الربيع العربي (2010 – 2013) مع استنكاف الجيش عن القمع وعدم السطو الأيديولوجي الإسلامي أو الجهوي على الانتفاضات وتمتعها باستقلالية بعيداً عن أوصياء خارجيين ومحاور إقليمية، ندخل عملياً المنعطف الحرج بعد استقالة عبدالعزيز بوتفليقة وتنحية عمر البشير، ويبدأ الاختبار العملي لمستقبل الصلة بين القوى العسكرية والأمنية من ناحية، والشارعين الجزائري والسوداني من ناحية أخرى.
تقترب لحظات الحقيقة حيث يصعب التسليم بانقلابات القصر واستمرار الأنظمة بواجهات جديدة دون تبديل في النهج ودون التفاوض مع القوى الحية في الحراك والنخب الشابة، مما ينذر باحتمال اندلاع العنف في حالة الاستعصاء وإغلاق الباب أمام تسليم العسكر بالانتقال لحكم مدني. هكذا من دون معادلة سحرية تضمن الحفاظ على ديمومة الدولة، وعلى بدء التغيير التدريجي، تنسد الآفاق ويلوح شبح الفوضى التدميرية أو تجميد حركة التاريخ مع كل ما يحمله ذلك من مغامرات ومخاطر.
يصر الكثير من المعنيين والمتابعين في البلدان العربية على قراءة التاريخ وتفسير مساراته من خلال “نظرية المؤامرة” ويحاولون تأويل الأحداث عبر التركيز على الخطط الأجنبية.
بالطبع لا يمكن إنكار العاملين الخارجي والإقليمي في لعبة الأمم التي تُمارسُ على أراضي العرب منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى اليوم، لكن ذلك لا يهمش العامل الداخلي إطلاقاً لأن الكثير من الأنظمة التي تعرضت للهزات انتهت صلاحيتها عمليا إذ أصابها التعفن والفشل في الداخل أو في مواجهة التحديات الخارجية.
والأدهى هو الفشل في بناء الدول الوطنية مشرقاً ومغرباً في مراحل بعد الاستقلال ولا يمكننا تسجيل إنجازات ملموسة على طريق بناء دول الحق أو دول القانون.
بعد التهليل الأولي لما جرى من تونس إلى ليبيا ومصر واليمن، تعثرت المراحل الانتقالية وطغى المنطق الأيديولوجي أو اختبار القوة الإقليمي والخارجي مما أدى إلى نكسات وحروب وتدمير، كما في الحالة السورية، في استمرار لعقاب الشعوب وتدمير الدول وتفكيكها على حد سواء.
بالطبع يمكن أن نحدد أسباب الفشل بعدم وجود الثقافة الديمقراطية وتعجل الإسلام السياسي بتسيير دفة الأمور (دون استخلاص لدرس الجزائر في التسعينات ولتجارب أخرى جعلت التغيير في الكثير من البلدان العربية أسيرا لثنائية الحكم العسكري أو الإسلام السياسي دون بدائل أو تعددية أو حوار) ودخول العامل الخارجي والمحاور الإقليمية على الخط من ليبيا إلى اليمن وسوريا.
وبالطبع أراد البعض تسفيه الربيع العربي وتصويره المرادف للفوضى غير الخلاقة. وفي الحقيقة لا يمكن تسفيه الربيع العربي أو دحض تسميته أو إدانته بالرغم من انعراجاته ومصائره المتباينة، لأنه يبقى قبل كل شيء لحظة مميزة وماركة حصرية للشباب العربي ولكل الذين تعرضوا للقهر وعبروا عن معاناتهم بانتفاضات سلمية نظيفة ومن دون أيديولوجيا للمطالبة بمبادئ اعتبروها بديهية وهي الحرية والكرامة والعدالة.
لكن المشاكل بدأت منذ فبراير 2011 مع المسعى الأيديولوجي لتحوير الحراك الثوري وإدخاله في لعبة المحاور الإقليمية. ومن دون شك لم تكن الدول العميقة قد قالت كلمتها الأخيرة وشهدنا تدويراً للسلطة أكثر منه تغييراً فعليا، وحاولت الجيوش في أكثر من مكان البروز بمظهر الدفاع عن الدولة وإنقاذها خاصة بعد الفوضى التدميرية من ليبيا إلى اليمن وسوريا، مع اختلاف الظروف الموضوعية وتشابك البعدين الداخلي والخارجي.
لكل الأسباب الآنفة الذكر وتبعا للمآسي التي حصلت في السنوات الثماني الأخيرة راهن حماة استمرار الوضع القائم ودعاة الاستقرار، بأي ثمن، على عدم تكرار الشعوب لحركات الاحتجاج لأن الربيع تحول خريفا ولأن دروب التغيير غير سالكة وتعتريها الصعاب. لكن التاريخ الذي ظن البعض أنه توقف على أبواب دمشق عاد ليسجل دورته الجديدة من الخرطوم إلى الجزائر، وبالفعل كان يكفي تمديد الرئيسين السابقين عبدالعزيز بوتفليقة وعمر البشير لنفسيهما حتى يتفجر الغضب وتبدأ الموجة الجديدة من الحراك الثوري العربي.
بالإضافة إلى ذلك كانت هناك عوامل محفزة أبرزها الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور في السودان، وعدم تنبه السلطة الجزائرية إلى أن 2019 لا تشبه 2014 من ناحية الظروف الموضوعية والذاكرة التاريخية لمعاناة الجزائريين خلال العشرية السوداء.
ساد التفاؤل في بدايات الموجة الجديدة لحصول تناغم معقول بين المؤسسة العسكرية (التي لعبت دورا أساسيا في تأسيس الدولة الجزائرية واستمراريتها وحكمت السودان بشكل شبه متواصل باستثناء ثماني سنوات من الحكم المدني منذ منتصف الخمسينات) وبين الحراك في كلا البلدين المتميزين بديناميكية ديموغرافية حيث يشكل الشباب حوالي 60 بالمئة من عدد السكان مع بقائهم خارج مواقع القرار وخارج سوق العمل. لكن مع الوقت نستنتج أن قيادة الجيش في الجزائر، كما لفيف المؤسسات العسكرية والأمنية في السودان، يريدان عملياً إعادة إنتاج النظام من دون رأس السلطة في المكانين.
يبدو هذا الرهان السلطوي محفوفا بالمخاطر خاصة إذا بدأ الانحراف نحو استخدام العنف أو تحويل النظر نحو الخارج أو دخول قوى متشددة على خط الحراك. لا يمكن التذرع بخطورة الفراغ وعدم وجود البدائل لتبرير استمرار الوضع القائم من دون تعديلات جوهرية وعدالة انتقالية ووقف الفساد ونهب المال العام.
وإذا كان الحراك السوداني له طابعه السلمي والاستثنائي، وقيادته الموحدة سياسيا ونقابيا وعرقيا وجهويا في فسيفساء متفاعلة ومرنة، فإن الحراك الجزائري يبدو في وضع أكثر دقة، لأنه لا يمتلك القيادة الواضحة، نظراً لتشظي القوى المعارضة وافتقادها للهيئات التمثيلية.
يتطلب الأمر في الحالتين الحفاظ على الاستقلالية وإبعاد الأجندة الخارجية، ورفض الانزلاق إلى العنف والتمتع بالصبر الاستراتيجي، ومحاولة التفاوض مع سلطات الأمر الواقع، والتركيز على السعي للتعامل مع العناصر الشريفة في المؤسسات الأمنية والعسكرية والإدارة التي تهمها ديمومة الدولة وتقبل التغيير.
من أجل تحاشي الوصول إلى سيناريوهات شبيهة بليبيا وسوريا، يجدر بكل الحريصين على السلم الأهلي ووحدة المجتمعات ومستقبل الدول تفويت الفرص على كل مصطاد في المياه العكرة وإعطاء الأولوية لمشاريع نهضوية تضمن التنمية والحرية والعدالة وتراهن على مستقبل عربي واعد.