بعد قرابة نصف قرن، وتحديداً بعد 44 عاماً على الحرب الأهلية التي دمرت لبنان، وفرّقت شعبه الواحد إلى عدّة شعوب، لم نأخذ العبر مما حصل، ولم نستفد من تجارب تلك المرحلة المرة التي مررنا بها لا على المستوى الفردي، ولا على المستوى الجماعي، إلى ان وصلنا اليوم إلى هذه الحالة المأساوية التي لا مثيل لها في أي بلد في العالم مر بذات التجربة التي مررنا بها، وعرف بالدم المراق بلا حساب معنى الوطن ومعنى المواطنة والانتماء إلى وطن واحد. ومن المؤسف والمحزن معاً القول بأن الدولة حتى الآن لم تقم كما يجب ان تقوم، وفق المعايير الحقيقية لقيامها، بل ما زالت مقسمة إلى دويلات بل إلى عدّة دول تتربص كل واحدة منها بالاخرى مما أدى إلى بقاء لبنان الذي نحلم به، مشدوداً إلى الوراء، ومهيئاً تماماً للتفكك والانقسام والتشرذم، امام أية هزة تأتي بها الرياح التي تهب من الداخل أو من الخارج لا فرق، لأن الذين تربعوا على السلطة أو الذين توارثوا هذه السلطة بحكم ما أفضت إليه تلك الحرب الأهلية اللعينة، بدلاً من ان يأخذوا العبر من الماضي، ويعيدوا بناء الدولة على أسس سليمة تشكّل حضانة واقية من أية عوامل خارجية، تماهوا في ترسيخ مفهوم اللادولة عند المواطن على حساب الدولة الواحدة، القوية والعادلة، الدولة التي تحتضن كل أبنائها وتعاملهم على قدم المساواة بحيث لا يشعر أي مواطن بصرف النظر عن دينه انه مضطهد أو يشعر بأنه مضطهد بسبب هذا الانتماء، أوليس هذا الشعور الذي كان سائداً بين اللبنانيين قبل 44 عاماً كان أحد العوامل الأساسية التي أدّت إلى حرب السنتين بالإضافة طبعاً إلى عدّة عوامل إقليمية وخارجية كانت السبب المباشر الذي أدى إلى تلك الحرب اللعينة وغير المأسوف عليها؟
ولأنك، توصف الواقع كما هو يتصدى لك أولئك المتربعين على عروشهم الطائفية والمذهبية منذ أن وضعت الحرب الأهلية اوزارها، واستغلوا كل التناقضات التي ما زالت تعشعش في النفوس لتكريس واقع غير طبيعي، ويتهمونك بالتحريض واستغلال بعض الهفوات لإعادة عجلة التاريخ الأسود التي مرّ بها لبنان ويتحججون بأن الظروف اليوم ليست كما كان الحال في السبعينيات وما قبله وأدت إلى إشعال النار بين اللبنانيين لكي يغطوا على تصرفاتهم واعمالهم التي أدّت إلى حالة التردي على جميع المستويات كما هو واقع الحال والتي أعادت زرع بذور الفتنة بين الطوائف والمذاهب في ظل تغييب متعمد للدولة القوية وللسلطة العادلة القادرة على تحقيق المساواة بين اللبنانيين بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، حتى أصبح كل شيء متاحاً وأصبح غير الممكن ممكناً، وباتت الارضية تربة خصبة للعودة إلى الاقتتال الطائفي والمذهبي رغم اختلاف الظروف كلياً او جزئياً بين الأمس واليوم، ويتناسون في ذات الوقت المأساة التي يتخبّط فيها هذا الشعب الذي علمته حرب السنتين التمسك بلبنان النموذج في التعدد والتنوع وعدم التفريط به إلى ان وصل اليوم نتيجة كل ذلك إلى حالة اليأس من قيام الدولة الواحدة والبحث عن الخلاص بين ظلال التقوقع داخل طائفته، وهذا بحد ذاته نذير بعودة الصراع الداخلي إلى ما كان عليه في السابق وانتهى إلى حرب الطوائف والمذاهب التي ادت إلى انهيار الدولة، فهل هذا ما يريده زعماء الطوائف الذين ما زالوا يتربصون على عروشهم ويتصرفون على أساس ان لبنان ليس دولة واحدة بل هو مجموعة دويلات تترصد كل واحدة منها بالاخرى لكي تنقض عليها عندما تحين الظروف المؤاتية؟
لقد أوصلوا البلاد والشعب إلى مرحلة من التردي والانقسام والترهل لا يُمكن الخروج منها الا بواحد من حلين اما التقسيم أو الفوضى العارمة التي تنتهي بالعودة إلى ما كان عليه لبنان قبل ان تتوقف تلك الحروب اللعينة.