تُدرج الولايات المتحدة الحرس الثوري الإيراني على لوائح الإرهاب. تتهم واشنطن إيران منذ عقود بأنها دولة راعية للإرهاب، ثم تستفيق قبل أيام وفق برنامج عمل مدروس، على وسم الحرس الثوري بصفة الإرهاب. بمعنى أن إيران بالجملة إرهابية، أما إيران بالمفرق، لاسيما مؤسساتها العسكرية والأمنية، فذلك خاضع لأجندات داخل خريطة طريق بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ انسحابه الشهير من الاتفاق النووي مع إيران في 8 مايو 2018.
والمسّ بالحرس الثوري في إيران من قبل الولايات المتحدة بالذات، هو مسٌّ بنظام الجمهورية الإسلامية مباشرة. تمّ خلق الحرس الثوري عام 1979 ليكون حاميا مدافعا عن نظام الثورة الإيرانية بمباركة آية الله روح الله الخميني. لم يثقْ النظام الجديد بمؤسسات الدولة التقليدية، الجيش وأجهزة الأمن، وقرر، وربما على قواعد أيديولوجية وربما فقهية، عدم الوثوق لاحقاً بأي مؤسسات تابعة للدولة، بالمعنى الإداري، والتي قد لا يذهب ولاؤها إلى حدّ الدفاع عن نظام دولة الثورة.
في تفسير الهدف من تشكيله، يشبه الحرس الثوري ما يبرر اندفاع نظام الجمهورية الإسلامية لبناء برنامج نووي ثبت أنه كان ذاهبا لإنتاج القنبلة النووية. في الحالتين يبدو الهمّ واحدا: حماية النظام الإيراني من أي محاولات لزعزعة بقائه. في ذاكرة النظام الإيراني أن المخابرات الأميركية هي التي قامت بالانقلاب على حكومة محمد مصدق في خمسينات القرن الماضي (1953)، وهي التي عملت على إعادة شاه إيران إلى عرشه. يعرف عتاة النظام في طهران أن الشاه كان حليفا لواشنطن، حمته يوماً، وتخلت عنه في يوم آخر. ويعرف هؤلاء أن واشنطن التي سهّلت مع حلفائها الغربيين وصول الخميني إلى الحكم في إيران من ضمن سياق الحرب الباردة، ستعمل على تقويض نظام ولاية الفقيه في يوم عاجل أو آخر آجل، بعد اندثار تلك الحرب.
على أن هذا الفكر السياسوي الذي روّج له النظام الإيراني لم يكن يستند على معطيات حقيقية. بدت عداوة إيران لـ”الشيطان الأكبر” عنوانا يبرر شرعية نظام الثورة في إيران. لا تسجل الوقائع أي سعي حقيقي قامت به الإدارات الأميركية المتعاقبة لإسقاط النظام في إيران. احتجز “طلاب الثورة” 58 أميركيا لمدة 444 يوما في سفارة بلادهم في طهران عام 1979، ثم راحت أدوات إيران في بيروت خلال السنوات التالية تخطف شخصيات غربية- أميركية، وصولا إلى قيام تلك الأدوات بتفجير ثكنة المارينز في لبنان عام 1983.. إلخ، ومع ذلك لم تقمْ الولايات المتحدة بأي ردّ يذكر يمكن أن يبرر خطاب طهران حول مؤامرة تحيكها واشنطن ضد وجود نظامها. لا بل إن فضيحة الـ“كونترا غيت” أو “إيران غيت” عام 1985 كشفت عن تواطؤ الولايات المتحدة لدعم الجهد العسكري الإيراني إبان الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي (1980 – 1988)، ما يرفد خيار واشنطن لحماية نظام طهران لا تدميره.
تروي وقائع التواصل السري بين واشنطن وطهران منذ قيام الجمهورية الإسلامية، أن هاجس النظام الإيراني الوحيد كان عقدة البقاء. أرسلت طهران رسائل مباشرة، علنية وخلفية، تفيد بأن مبرر برنامجها النووي، وحتى طموحها العسكري في هذا الصدد، متعلق بالخشية على أمن النظام، وأن أي ضمانات يقدمها الغرب، والولايات المتحدة بالذات، كفيلة بالتراجع عن هذا البرنامج.
لم يكن الكلام نظريا. بدا في مرحلة ما بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001 أن ما يجمع إيران والولايات المتحدة في المنطقة أكبر بكثير مما يفرق بينهما. راجت في الولايات المتحدة نظرية التحالف مع الشيعية السياسية بزعامة إيران، ضد السنية السياسية التي أنتجت تنظيم القاعدة الذي ضرب في داخل الأراضي الأميركية. وبدا أيضا أن واشنطن قدمت ثمار غضبها من اعتداءات تنظيم القاعدة الشهيرة هدية إستراتيجية لإيران، في أفغانستان ثم في العراق، على ما يؤشر إلى أن بقاء نظام ولاية الفقيه، بالذات، هو حاجة للأمن الاستراتيجي الأميركي، وجزء من مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ولئن أسست إدارتا الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش لهذا الواقع الميداني، أتت إدارتا باراك أوباما لتحوّلا الأمر إلى حقيقة قانونية “تُبدع” واشنطن لجعلها نظاما دوليا جديدا. لم يتنازل المرشد الإيراني علي خامنئي حين قبل عام 2015 بمباركة اتفاق الـ5+1 الذي تولى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف التفاوض لقطفه. نال الرجل الأول في إيران الضمانات التي لطالما توسّلتها إيران من واشنطن للاعتراف بنظام الجمهورية بصفته نهائيا داخل المشهد الدولي، وليس حدثا عابرا في التاريخ الحديث. في ثنايا ذلك الاتفاق ما كان يؤسس لعهد إيراني جديد يجعل من طهران شريكا كاملا في رسم خرائط المنطقة وتقرير مصائر بلدانها. لم تعد إيران، وفق ذلك الاتفاق، مشكلة لهذا العالم، بل باتت جزءاً من حل مشاكله.
أن تضع واشنطن الحرس الثوري (يقدر عدد أفراده بـ125 ألفا) على لائحة الإرهاب، فتلك عودة إلى المربع الأول في علاقة إيران بالعالم. تهزّ الولايات المتحدة على نحو مكشوف عمادا أساسيا من أعمدة النظام في إيران. وتهزّ واشنطن في الوقت عينه قاعدة أساسية من قواعد المنظومة الاقتصادية في إيران. تستهدف الولايات المتحدة، بشكل مباشر أيضا، أي منظومة اقتصادية في العالم تخاطر في التعامل مع أي من الشركات الإيرانية التي لا تحصى والتابعة مباشرة لإمبراطورية الحرس الثوري الاقتصادية والمالية. باتت الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في حرب ضد تشكيل إيراني له امتداداته في دول المنطقة وضعته على لائحة الإرهاب. وفي ذلك أن على حلفاء الولايات المتحدة الغربيين، لاسيما أولئك داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، أن يأخذوا علماً أن واشنطن باتت تعتبر الحرس الثوري عدوا إرهابيا.
قد يتساءل المراقب عما يعنيه أمر القرار الأميركي ضد الحرس الثوري قبل أسابيع من رزمة العقوبات الأميركية الثالثة ضد إيران في 3 مايو المقبل، والتي تهدد بتصفير الصادرات النفطية الإيرانية، وقد يطرح أسئلة حول قساوة ذلك على النظام الحاكم في إيران. وحدها طهران تعرف جسارة هذا الأمر وما يعنيه من تحوّل أميركي غير مسبوق منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979. المرشد علي خامنئي يصف القرار بـ“الوحشي”، فيما يحتشد أعضاء مجلس الشورى بلباس الحرس الثوري تضامنا مع اليد الضاربة للنظام. والأمر في إيران لا يمسّ أحد أجنحة النظام السياسي في إيران فقط، بل هو مساس مباشر بمسألة بقاء النظام برمته بكل أجنحته. هكذا يعبر “المعتدل” الرئيس حسن روحاني الذي يصف الحرس بـ“حماة إيران”، وهكذا يعبر “المنفتح” وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي يتحدث عن “مغامرة أميركية خطيرة في المنطقة”. ذلك أنه عند حدود الخطر، كمثل خروج الناس في أكثر من 70 مدينة إيرانية خريف العام الماضي، تزول الفوارق بين الأجنحة وتذوب بينها الحدود.
تعايشت إيران والولايات المتحدة على تبادل صفات الشيطنة خلال العقود الأربعة من عمر الجمهورية الإسلامية. إيران داخل “محور الشر” بالنسبة لواشنطن وأميركا “الشيطان الأكبر” بالنسبة لطهران. في هذه الأيام يكتشف الأميركيون أن “نظام إيران إرهابي”، ويكتشف الإيرانيون أن “حكومة الولايات المتحدة إرهابية”. هكذا تتبادل واشنطن وطهران الأوصاف. ومقابل إرهابية الحرس الثوري فإن كل القوات الأميركية في المنطقة باتت في عرف طهران إرهابية. وحين يتقابل “الإرهابيون”، فإن ذلك نذير صدام كبير أو “بشير” توافق وعناق يعيد ترتيب مصالح البقاء والقوة وفق أبجديات جديدة.