أراد الأستاذ عبد الرحمن الراشد («الشرق الأوسط» 9-4) إقناعنا (ونحن مستعدون للاقتناع) بأن المتظاهرين اليوم في الجزائر والسودان مختلفون عن متظاهري عام 2011، كما أنّ العسكريين في الجزائر وليبيا والسودان لا يحكمون اليوم مثلما كانوا يحكمون في عام 2011. وأنا أرى أن الشِقّ الأول من المقولة صحيح. فقد أفاد المتظاهرون الجدد من تجربة عام 2011 وما بعده، لجهة السلمية الشديدة، ولجهة عدم السماح بأن يتسلل إلى صفوفهم الحزبيون الإسلاميون وغير الإسلاميين. أما الشق الثاني من المقولة التي نسبتُها إليه (على سبيل المزاح!) فتحتاج إلى تفصيل لأنّ الحالات في البلدان الثلاثة مختلفة. فنحن لا نعرف ماذا كان يحدث في الجزائر منذ إصابة الرئيس بوتفليقة عام 2013، إذ إنّ الانطباع نتيجة التبديلات الكثيرة في القيادات العسكرية والأمنية في السنوات الأخيرة أن بوتفليقة استطاع في سِنيِّ صحته ومرضه إخراج عسكر الجزائر من دوائر السيطرة في الدولة وعليها. لكنْ عندما ترشح الرئيس للعهدة الخامسة، ورفض المتظاهرون ذلك، وبدأوا يتحدثون عن «العصابة» وصولاً إلى الاعتراض على الرئيس المؤقت الذي اعتبروه أحد أعضاء العصابة، عرفنا أنّ هناك أُناساً من حول الرئيس كانوا يحكمون باسمه وبالتنسيق مع قيادات عسكرية ومن بينهم أُناسٌ خرجوا من دائرة الضوء. المهم أنّ موقف الجيش حتى الآن سليم، ويبدو أنه يريد الاقتصار على حراسة أمن البلاد، دونما تدخلٍ في العملية السياسية. ولا يزال المتظاهرون يطالبون بتغيير النظام دونما وجود آلياتٍ لذلك أو مرحلة انتقالية. المخاوف مشروعة إذن، لكنّ هذا التحشد الهائل الذي بدأت تظهر فيه قيادات واعدة، يغلّب جانب الرجاء على الخوف: فليس بعيداً أن يظهر شخصٌ أو أكثر مثل المفاجأة التي حصلت في فرنسا بماكرون!
إنّ التعقيد أو المشهد المركَّب في الجزائر لا يتوافر مثله في السودان. فحكم البشير العسكري والأمني الذي أدى إلى انقساماتٍ وحروبٍ في البلاد، وتردّيات في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية هو سبب الأزمة أو علّتها الرئيسية. والمتظاهرون في السودان (بخلاف الجزائر) لجأوا أخيراً إلى الجيش اعترافاً منهم بالعجز عن التغيير بحراكهم وحده. والجيش موقفه مُشكِل: سمح ببقاء المتظاهرين متحشدين أمام مركز قيادته، وقال إنه لن يفضّهم بالقوة، ولن يسمح للقوى الأمنية بممارسة العنف ضدهم، ومن جهة أُخرى قال إنه لم ولن يُجري مفاوضات مع أي طرفٍ سياسي، وإنّ الرئيس البشير هو القائد العام للقوات المسلحة. وبخلاف المشهد الجزائري مرة أُخرى، ورغم أنّ عنوان حراك السودان «تجمع المهنيين»؛ فإنّ كلَّ القوى السياسية المعارضة مشاركة في الحراك والتظاهر: فمَن الذي يعلِّق الجرس؟ هل لا تزال لدى الجيش الوطني استقلالية تسمح بتنحية البشير وإقامة حكم مؤقت يمهّد لانتخابات رئاسية وبرلمانية، وعودة للسلطة المدنية، كما حدث في عامي 1965 و1985؟ أم أن البشير يعتمد كالعادة على المطاولة، وخلال ذلك تعود الحركات المسلّحة والفوضى خارج الخرطوم وأمّ درمان؟ الموقف قد يحتاج إلى مبادرتين لا إلى مبادرة واحدة: أن يُظهر البشير استعداداً للتنحّي، وأن يُظهر الجيش قدرة على إقامة سلطة مؤقتة تُجري انتخابات وتخرج من المشهد كما فعل الفريق عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985. الشعب السوداني شعبٌ مسالمٌ جداً. لكنّ السلطات العسكرية المتدثّرة برداء «الإخوان» وأشباههم، أظهرت منذ عام 1989 حرصاً على البقاء في السلطة غير آبهة بوحدة السودان واستقراره، ولو لم يبقَ بيدها غير الخرطوم وأمّ درمان.
ولنذهب إلى ليبيا حيث الموقف الأصعب. الدوليون كثيرو التدخل هناك. وتهمهم ليبيا لأنها دولة بترولية، ولأنّ المهاجرين يعبرون منها إلى أوروبا، ولأنّ الاضطراب في الجوار الأفريقي صار يستفيد من الفوضى فيها. وقد سلّم الدوليون (رغم التفاوت في المصالح ووجهات النظر) بحكومة الوفاق في طرابلس، رغم التشارك بينها وبين الميليشيات المسلحة المتأخونة وغير المتأخونة. بينما سيطر في الشرق والجنوب المشير حفتر ومعه البرلمان وحكومة أخرى. وقد ارتأى المبعوث الدولي الدكتور غسان سلامة، أخيراً إقامة حوار وطني جامع في غدامس يمهّد بالتوافق لانتخابات. والليبيون الذين نعرفهم يقولون: مع الميليشيات لا انتخابات وإنْ جرت فلن تكونَ لها نتائج مثلما حدث مرتين أو ثلاثاً. إنما لا أحد يدري بالضبط لماذا قرر المشير حفتر (ومعه ثلثا الجيش الليبي القديم) مهاجمة طرابلس الآن ولم ينتظر نتائج مؤتمر الحوار. لقد قدم الرجل في السنوات الماضية تجربة جيدة: نشر الأمن في الشرق والجنوب، وأخرج الإرهابيين، والعصابات التي كانت تهدد الآبار النفطية والشواطئ، وتعاون مع الأمن المصري لضبط الحدود، كما تعاون مع الدول الأفريقية لمنع تحركات الإرهابيين بين البلدان في تلك المناطق الصحراوية. أما خصومه فيشكون من تفرده وعناده، وأنه لا يفي بالاتفاقيات التي يعقدها مع السراج وقد اجتمعا خمس مرات آخرها في أبوظبي بدولة الإمارات. الدوليون والأمين العام للأمم المتحدة والمبعوث الدولي، هؤلاء جميعاً، مصرُّون على أن يوقف حفتر هجومه، وأن يعود الجميع للحوار، وللمؤتمر الوطني الجامع. أما حكومة الوفاق فقد بدت ضعيفة، واستعانت بالميليشيات من مصراتة وغيرها لوقف هجوم المشير أو إحباطه. كل الأطراف تريد الآن وقف النار، كما حصل قبل شهرين عندما اشتبكت الميليشيات فيما بينها!
لقد تحدثنا عن الجزائر وعن السودان، وهما بلدان يريد الجيش فيهما، حسب الظاهر، الخروج من السلطة. أما في ليبيا فإنّ الجيش يريد استعادة السيطرة في سائر أنحاء البلاد، ويقول إنه يهدف لاستعادة وحدة الأرض والشعب والاستقرار، وألا تظل ليبيا مهدِّدة لدول الجوار، وللأمن الأوروبي والعالمي. لكنّ المجتمع الدولي لا يقف معه أو مع طريقته في تحقيق ذلك. وهذه مهمة يحتاج تنفيذها إلى قدراتٍ كبرى وإلى علاقاتٍ تبعث على الثقة في أواسط الدول البعيدة قبل القريبة، والأمران غير متوافرين بالدرجة الكافية.
في عام 2013 وصلت الأحوال في دول الأنظمة العسكرية والأمنية إلى موقف، استدعت مني كتابة مقالة بعنوان: الخوف من الدولة والخوف عليها. وقد تدخل الجيش المصري بسبب الخوف على الدولة. وها نحن نجد جيشين عربيين آخرين يريان عدم التدخل من أجل وحدة البلاد وسلامتها. بينما يرى الجيش الوطني الليبي أن تدخله في هذه الظروف أكثر ضرورة.
إنّ استقبال المتغير المدني الجديد ضرورة عربية وعالمية. لكنّ أوضاعنا نحن العرب لا نُحسدُ عليها. أولم يقل زياد بن أبيه للعراقيين: لأجعلنّ لكلٍّ منكم شغلاً في بدنه! نعم، كلٌّ منا مشغولٌ بما لا يتعدى حاجات بدنه وعيشه. لكنّ هذه الشعوب الهائلة من اليمن إلى ليبيا والجزائر والسودان والصومال، تحتاج إلى عيشٍ أيضاً، سواء أرادت ميليشيات الفوضى والجريمة والمجتمع الدولي أم لم يريدا.