هناك من يقلّل من خطورة الوضع الاقتصادي والمالي، ولا يعير هذا الجانب أهمية انطلاقاً من إيلاء الوضع السياسي كل الاهتمام، او من اعتقاد عفوي انّ المجتمع الدولي لن يسمح بسقوط لبنان في الهاوية المالية. ولكن المعطيات المستندة إلى الأرقام تؤكّد انّ الوضع أخطر مما يظنّ البعض، وهذا بالذات الذي دفع رئيس الحكومة سعد الحريري إلى استحضار النموذج اليوناني. ومعلوم انّ الحريري هو أبعد ما يكون عن تخويف اللبنانيين، وهو الأحرص على الاستقرار، ولكنه في الوقت نفسه أراد التعبير بصدق وشفافية عن دقّة الوضع الذي يمكن اجتيازه عبر الإجراءات الصارمة والتقشف الكبير.
ففي ظل وضع مالي واقتصادي من هذا النوع، يصبح الانقسام السياسي حول جنس الملائكة أو في الملفات الانقسامية الفعلية ضرباً من الجنون، ومساهمة في الانهيار الذي يؤدي الى تفقير الناس والأخطر تشريعه الوضع على الفوضى والمجهول وعدم الاستقرار وربما الحروب، لأنّ الناس، جميع الناس سيثورون رفضاً لهذا الواقع وتحميلاً للمسؤوليات في كل الاتجاهات، كونه لا يُعقل أن لا تتمكن الإدارة السياسية من إدارة هذا الوضع تلافياً للانهيار، إلاّ في حال كان هناك قرار دولي بمحاصرة لبنان اقتصادياً لدفعه نحو الانهيار، ولكن لا مؤشرات الى ذلك، بل العكس تماماً.
وفي موازاة خطورة الوضع الاقتصادي ودقته، هناك اقتناع لبناني في انّ النزاع القائم اليوم في المنطقة هو أكبر من لبنان واللبنانيين، ومن الجنون أيضاً إقحام أنفسهم في هذا النزاع الذي سيُحسم في هذا الاتجاه او ذاك من دون منّة منهم، بل انّ توريط انفسهم سيؤدي حُكماً إلى تدمير لبنان. ومن الحكمة التلطي اليوم بالمقولة الشهيرة «عند تغيير الدول إحفظ رأسك»، والمقصود طبعا رأس لبنان.
فكل المؤشرات الأميركية والإسرائيلية تفيد انّ التحضير للحرب يتمّ على قدم وساق، بدءاً من المواقف السياسية الأميركية، مروراً بالإجراءات العقابية، وصولاً الى التحضيرات العملانية. ولا يبدو أنّ المنطقة يمكن ان تنجو من الحرب سوى في حالة واحدة، وهي قبول طهران في اللحظة الأخيرة بالشروط الأميركية وجلوسها الى طاولة المفاوضات والتزامها الأجندة الأميركية، وأي التزام من هذا النوع يعني انتهاء علّة وجود الثورة الإيرانية. ولكن، قد يكون من الأفضل لطهران التكيُّف مع المرحلة الجديدة عوضاً عن الدخول في حرب محسومة نتائجها سلفاً بأنّها لغير مصلحتها، لأنّ القرار اتُخذ بتطويعها على غرار قرار ضرب الرئيس صدام حسين. وأي خطأ في الحسابات ستكون نتائجه وخيمة جداً.
فما يُحضّر للمنطقة أكبر مما يظن البعض ويعتقد. والمشكلة انّ ما يُحضّر ما زال مجهولاً بالنسبة إلى معظم اللاعبين الكبار. وكل المؤشرات تؤكد انّ «صفقة القرن» ليست عنواناً فارغاً من أي مضمون، بل كناية عن مشروع متكامل للمنطقة، ستحاول الإدارة الأميركية ترجمته على ارض الواقع في ظل إصرار أميركي يصل إلى حد تنفيذه بالقوة.
وقد شكّلت الانتخابات الإسرائيلية أولى ترجماته، كون هذا المشروع سيُنفذ بالتكافل والتضامن بين بنيامين نتنياهو، الذي نجح في الانتخابات وسيشكّل حكومته الخامسة، وبين الرئيس دونالد ترامب. وفي هذا السياق، لا يفيد الرهان على الوقت ولا على سقوط ترامب في الانتخابات المقبلة، لأنّه كما نجح نتنياهو سيجدّد ترامب ولايته الرئاسية، فضلاً عن انّ الرئيس الأميركي يراهن على قدرته في تحقيق برنامجه للمنطقة نهاية السنة الحالية في أبعد حد، فيما المنطقة ستدخل مع تشكيل حكومة نتنياهو في مرحلة الخطر الحقيقي. وأما الرهان على موسكو لقلب الطاولة فهو في غير محله، ليس من زاوية عدم قدرتها فقط، بل من منطلق تعاونها مع واشنطن وتل أبيب معاً.
فالمنطقة امام أشهر دقيقة جداً، والكلام عن صيف ساخن هو كلام فعلي وحقيقي وليس تهويلياً. والمهم في كل هذا المشهد ان ينجو لبنان من الإعصار المقبل. وعلى رغم الدور الإقليمي لـ»حزب الله» غير انّه يُدرك تماماً انّ النزاع القائم أكبر منه بكثير، وتدخّله لن يبدّل شيئاً في المشهد العام، بل يجرّ الويلات عليه وعلى لبنان، وهو لا شك يدرك ذلك، وكلام السيد حسن نصرالله الأخير يدخل في السياق الطبيعي لعدم قدرته على تجاهل «الطحشة» الأميركية غير المسبوقة، وبالتالي هو ردّ لفظي في مواجهة خطوات عملية إسرائيلية وأميركية. وكلامه عن الردّ على التصعيد الأميركي تقصّد ان يضعه في إطار مكونات محور المقاومة وليس عن «حزب الله» تحديداً، تلافياً لنقل المشكلة إلى الداخل اللبناني في مرحلة استقرار غير مسبوقة في لبنان تشكّل مصلحة للجميع، وتجنباً لاستجرار المشكلة التي يعلم انّ تل أبيب تريد جرّه إليها. وبالتالي على الرغم من الجانب العقائدي للحزب، فمن مصلحته أيضاً الالتزام بقاعدة «عند تغيير الدول إحفظ رأسك»، لأنّ المشكلة اليوم أكبر منه بكثير.
فعشية 13 نيسان 2019 ينعم لبنان باستقرار ما بعده استقرار، خلافاً لما كان عليه الوضع عشية 13 نيسان 1975 في ظل انقسام لبناني عمودي وتحضيرات عسكرية ومقدمات تؤكّد انزلاق لبنان نحو الحرب الأهلية، فيما الوضع اليوم بين اللبنانيين وبين المكونات السياسية ابعد ما يكون عن مناخات منتصف السبعينات وحتى أجواء سنوات ما بعد الخروج السوري من لبنان.
ومن حسنات التسوية السياسية التي تجلّت بانتخاب الرئيس ميشال عون، فضلاً عن عوامل أخرى بطبيعة الحال، انّها أعادت الاستقرار والانتظام والتفاعل البنّاء بين المكونات اللبنانية. ولولا سلاح «حزب الله» والخشية من دوره الإقليمي أو إقحامه لبنان في النزاع الأميركي- الإيراني، فإنّ اي مراقب للمشهد اللبناني يخرج بانطباع بنّاء وإيجابي عن حياة سياسية ناشطة وتفاعلية، أولويتها مصلحة المواطن وترشيد الإدارة واستبعاد الانهيار بعيداً من الانقسامات الأيديولوجية والعمودية.
فلبنان 13 نيسان 2019 لا يشبه لبنان 13 نيسان 1975. فلا خلافات من طبيعة طائفية ومذهبية، ولا مقدّمات لحروب داخلية، بل اقتناع لبناني بضرورة تجنيب لبنان واللبنانيين ويلات الحروب التي اكتووا منها.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل سيتمكن لبنان من ان يجنّب نفسه حروب 13 نيسان الإقليمية؟