السودان بلد منكوب برئيسه الذي لا يمكن أن يغادر منصبه إلا عن طريق تسليمه إلى العدالة الدولية. وهو ما سيقع عاجلا أم آجلا.
 

بعد أن ألقيتُ مداخلتي في ندوة عن الفنون بمسقط، سألتني امرأة يشي كل شيء فيها بنسبها إلى زمن سوداني جميل، لم يعد في الإمكان استعادته، “لماذا لا يظهر فنانون كبار جدد في السودان؟”.

قلت لها “بكل بساطة لأنه لا توجد حياة حقيقية في ذلك البلد الذي وهب العربَ فنانين كبارا من نوع إبراهيم الصلحي وأحمد شبرين وتاج السر حسن. حين تغيب الحياة الحقيقية فإن الفن الحقيقي يغيب معها”.

ولأني شعرت أن جوابي كان على قدر من التجريدية لأني لم أرغب في تعميق الجرح أضفت “الفن ممارسة تحتاج إلى قدر مفتوح من الكرامة. وبما أن النظام السياسي هناك قد أفقد الناس كرامتها، فلن تكون تلك الممارسة إلا نوعا من الاحتيال على الذات والعلم معا. فن من غير كرامة هو فن تحت السيطرة وفاقد لحريته التي هي جوهر كيانه”.

انتبهتُ بعدها إلى حقيقة لطالما مررنا بها من غير أن نجرؤ على لمسها بالرغم من قربنا منها خشية أن تنفجر بوجوهنا. لقد نجح النظام السياسي العربي في تكريس فشله وانحطاطه السياسي حين ربط حاضر ومستقبل الشعوب التي يدير شؤونها بطريقة غير مسؤولة بمصيره. فإذا ذهب يكون كل شيء من بعده هباء.

طحنت عجلة ذلك النظام الشعوب بحيث صارت بمثابة الدقيق الذي تمارس تلك العجلة عليه هوايتها في عنف المفلسين الذين أغلقوا بأنفسهم الأبواب التي تؤدي إلى حدائق العالم. فلا هواء يتجدد ولا ثغرة للأمل.

لقد تم السطو على حواس تلك الشعوب. فهي ترى بعيني النظام الحاكم. وهي لا تشعر بطبيعة ما تلمسه أصابعها إلا عن طريق ما يشعر به النظام. وهي تتذوق الأطعمة التي تنفذ وصفات النظام. كما أنها لا تسمع إلا إيقاع بسطال القائد الضرورة الذي يتنقل بين خنادق جبهات القتال التي تصلح أن تكون مكانا لإطلاق روائح البارود التي تتعطر بها الشعوب.

في خضم الانتهاك القسري لحواس الشعب هل يمكن أن يُنتج فن حقيقي يمكنه أن يرتقي بذائقة الشعب ويسمو بأخلاقه؟

لقد ارتبط الفن بالرفعة والنبل والحب لا بالوضاعة والخيانة والكراهية.

كان النظام السياسي الحاكم في السودان وضيعا عبر سنوات عمره، بحيث انتهى إلى أن يكون رئيسه مطاردا من قبل محكمة العدل الدولية باعتباره مجرم حرب.

وعلينا أن نتخيّل الذل الذي يعاني منه الشعب السوداني حين يكون محكوما من قبل مجرم حرب تطارده يد العدالة، ولا يمكنه أن يهبط بطائرته في أي مطار إلا إذا حصل على ضمانات مسبقة. وعلينا أن نتخيل علاقة الكراهية التي يضمرها المجرم للعالم الخارجي الذي جعله يتصرف كالفأر وهو يرقص هازاً عصاه بين صفوف الريفيين الذين اشترى حضورهم بثمن بخس.

السودان بلد منكوب برئيسه الذي لا يمكن أن يغادر منصبه إلا عن طريق تسليمه إلى العدالة الدولية. وهو ما سيقع عاجلا أم آجلا.

عمر حسن البشير سيذهب إلى العدم لا محالة، وسيذهب معه نظامه غير أن المشكلة ستظل قائمة.

فالقيم التي تم طحنها لا يمكن استعادتها بيسر وفي زمن مرئي.

تلك هي القيم التي تصنع فنانين ومفكرين وعلماء وفلاسفة وصناع حياة حقيقية.

عبر أكثر من خمسين سنة، وهو عمر نظامي جعفر النميري وعمر البشير، كانت قيم الفضيلة تتدحرج إلى الهاوية في مقابل صعود قيم الرذيلة التي يبشّر بها الإخوان المسلمون.

ما الذي يرثه إخواني محترف من إخواني هاو غير الضلالة والانحراف والحقد على المدنية والحضارة. تلك هي علاقة البشير بالنميري. وهي العلاقة التي تلخص مصيبة السودان الكبرى.