ماذا يمكن أن يعني اعتراف الرئيس الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، بعد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، سوى أن دونالد ترامب لا يريد سلاماً في المنطقة، ولذلك ضاعف هداياه لبنيامين نتانياهو وحرص على تصنيف الحرس الثوري الإيراني «جماعة إرهابية» عشية الانتخابات. وماذا يمكن أن يعني احتفال الرئيس الروسي بتسليم رفات العسكري زخاريا باوميل إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي سوى دعم انتخابي للأخير.
يتسابق ترامب وبوتين إلى خطب ودّ نتانياهو وتعميده شرطياً للشرق الأوسط، على رغم أن «الشرطي» لا يقدم نفسه كرجل سلام بل عمل طوال وجوده في السلطة لقتل عملية السلام. لكن يبدو أن التطرّف ميزة مطلوبة ومحبّذة، أميركياً وروسياً، لدى صاحب السلطة في اسرائيل، خصوصاً إذا كان تطرّفه مدعّماً بفساده.
إيران تحت العقوبات الأميركية لإخراجها من سورية بعدما عمّقت رسوخ ميليشياتها في أرضها كما في أرض العراق وفي مفاصل الدولة اللبنانية. تركيا تحت الضغوط في تأرجحها بين المعسكرين الأميركي - الغربي والروسي وإذا جنحت نحو الأخير فربما يُصار إلى إخراجها من حلف الأطلسي وتُفرض عليها عقوبات مالية وعسكرية. أما إسرائيل فتتلقّى «هدايا» أميركية وروسية، وتُمنح وحدها امتياز العمل مع المعسكرَين، ولا يهم أن تتميّز حكوماتها بالتطرّف أو أن يتبارى ساستها لإثبات مَن منهم أكثر عنصريةً ووحشية من الآخر ضد الفلسطينيين. صحيح أن ترامب غيّب الأخلاقيات عن الخطاب الأميركي ولا يستثني سوى إسرائيل من دعوته سائر حكام العالم إلى الاعتدال، صحيح أيضاً أن الخطاب الروسي لا يكترث عموماً بالأخلاقيات، إلا أن ثمة ميلاً متنامياً لديهما إلى تفضيل عقلية المافيات وطقوسها في تسهيل تطبيقات السياسة دولياً واقليمياً، ولأن هناك دائماً مافيا أكثر قبولاً من مافيات أخرى، فالبارز الآن أن مافيا إسرائيل هي التي تقدّمت في السباق، إذ يعتمدها الأميركيون والروس قناة تواصل في أيام قطيعتهم القسرية، ويعوّلون على خدماتها ويسترشدون باقتراحاتها في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
أكثر من إيران وتركيا، استطاعت إسرائيل أن تبرهن جهوزية أكبر للاعتراف بدورها، فهناك توافق أميركي - روسي تاريخي (منذ العهد السوفياتي) على وجودها وأمنها وتفوّقها العسكري إقليمياً، بما في ذلك النووي، وهناك أيضاً الدور الحيوي الذي لعبته في أزمة استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي عام 2013 وإسهامها مع موسكو في إجهاض مشروع ضربة لسورية تظاهرت إدارة باراك أوباما بالتلويح بها آنذاك. وقبل التدخّل الروسي في سورية كانت إسرائيل كفلت لنظام بشار الأسد بقاءه ولم تعترض على تدخّل إيران و«حزب الله» طالما أنهما يسهمان في إضعاف سورية وتدميرها، كما نجحت في إقناع واشنطن بعدم السعي إلى إسقاط النظام طالما أنه يعمل بحسب المطلوب والمتوقَّع منه بل أكثر. ولم تشرع إسرائيل والولايات المتحدة في طرح قضية إيران و«حزب الله» والميليشيات الأخرى إلا بعدما أنجزت هذه إجهازها على سورية.
تركيا وإيران كانتا مرشّحتين لأدوار إقليمية ولملء الفراغ الاستراتيجي العربي الناجم تحديداً عن انشغال مصر بترتيب أوضاعها الداخلية وتفاقم الصراعات في العراق الواقع تحت الهيمنة الإيرانية، وعن سقوط سورية تدريجاً من المعادلة الإقليمية. في عهد أوباما أظهرت واشنطن استعداداً للاعتراف بنفوذ إيران ولتحييد السعودية ودول الخليج، ولم تبدِ اهتماماً عميقاً وواقعياً بالأجندة الإيرانية خصوصاً في جانبها المعتمد على الميليشيات والتنظيمات الإرهابية في سورية والعراق، وبالأخص في سعيها إلى الاستحواذ على اليمن ما تسبّب بإشعال الحرب المستمرة في سنتها الرابعة. على رغم هذه الأجندة ظهرت إيران كما لو أنها موضع «توافق» بين روسيا - بوتين وأميركا - أوباما، ما أتاح لها الاستمرار بمخططاتها في سورية واستكمالها حتى في ظل أميركا - ترامب والضربات الإسرائيلية المتلاحقة بموافقة روسية لا شك فيها.
ومع أن تركيا حليف قديم للولايات المتحدة وعضو بارز في «الناتو»، إلا أن مكانتها هذه تزعزعت مع الإدارتين الأميركيتين السابقة والحالية، فلم تأخذ واشنطن ولا «الناتو» بشكاواها من الخطر الكردي على «أمنها القومي»، بل تجاهلا «مصالحها» في سورية وتناسيا تصنيفهما السابق لـ «حزب العمال الكردستاني» كمنظمة إرهابية. وعلى رغم أن واشنطن لم توضح دوافعها وأهدافها في سورية حتى الآن إلا أن «الكيان الكردي» الخاص الذي ترعاه في الشمال يبدو موضع قبول ثلاثي (مع روسيا وإسرائيل). وإذ مرّت تركيا بفترة عصيبة بعد إسقاطها طائرة «سوخوي» روسية (تشرين الثاني/ نوفمبر 2015) فإنها لم تخرج منها إلا بخطوتين، أولاهما «تطبيع» علاقتها المتوتّرة مع إسرائيل، والثانية إبداء اردوغان استعداداً للتموضع في تحالفٍ مع روسيا (ردّاً على ما اعتبره تواطؤاً أميركياً في المحاولة الانقلابية ضدّه) مرفقٍ بـ «تنازلات سورية» (في حلب، التي تحوّلت الآن إلى مستعمرة إيرانية) قدّمها إلى بوتين الذي بادله بمنح تركيا مكاناً في معادلة شمال سورية وفي «الضمان الثلاثي» (مع إيران) للوضع السوري.
كما هو واضح يصعب التوافق أميركياً وروسياً على دورَين محدّدَين لتركيا وإيران، فهما لم تستوفيا الشروط التي تضعها الدولتان الكبريان اللتان تريدان الاستمرار في الإمساك بخيوط اللعبة في الشرق الأوسط، فأميركا هي التي تقبل الدور الروسي، بشروطها. وروسيا توزّع الأدوار الأخرى بالتوافق مع أميركا.
في قمة هلسنكي (منتصف تموز/ يوليو 2018) قيل أن ترامب وبوتين تحادثا عن سورية لكنهما لم يتحدّثا في مؤتمرهما الصحافي إلا عن إسرائيل، أي عما اتفقا عليه فعلاً، وما عدا ذلك ظلّ موضع خلاف تجاذب، تحديداً «الصفقة الشاملة» التي انتظرها بوتين من تدخله في سورية، وكذلك الوجود الإيراني في سورية والطموح التركي في شمالها. وإذ تقلّصت آمال بوتين في «الصفقة» أصبح أكثر اقتناعاً بأنه لن يكسب في سورية إلا ما يستطيع تحصيله، وما عليه سوى أن يحجّم التدخلَين الإيراني بالاعتماد على إسرائيل والتركي بالاعتماد على الولايات المتحدة. لكن إيران رسّخت جذورها عميقاً في سورية وزادت من احتضانها لبشار الأسد كي تزيد مهمة الروس تعقيداً وصعوبة اذا فكّروا في استئصالها. أما تركيا فيستلزم لجمها وتطمينها الكثير من إجراءات الاحتواء للأكراد. ثم أن هناك نظام الأسد نفسه الذي لا بد للروس من تغيير طبيعته وتركيبته ليصبح الوضع السوري أكثر قابلية للاستثمار سواء باجتذاب المساهمات في إعادة الاعمار أو بتسهيل عودة اللاجئين والنازحين.
سيتعرّض الدور الروسي لمزيد من التعقيدات حين تُطرح «صفقة القرن» التي كان قرارا ترامب في شأن القدس والجولان تمهيداً لها، وقد يُتبعهما نتانياهو بضم مستوطنات الضفة الغربية كجزء من «الصفقة» التي بُنيت على مفاهيم تقسيمية وتفتيتية لا تؤسس لأي سلام أو استقرار، وقد لا تقتصر على فلسطين لتصفية قضية شعبها بل يمكن أن تشمل تلك المفاهيم سورية أيضاً طالما أن الدول الكبرى المعنية لا ترى نهاية حقيقية للصراع فيها ولا إمكاناً لإعادتها دولة موحّدة لجميع السوريين. ولا غرابة في ذلك فهذا هو الهدف الإسرائيلي في نهاية المطاف. وحين اختار بوتين تسليم رفات الجندي إلى نتانياهو بعد أيام من نيله اعتراف ترامب بالسيادة على الجولان لم تكن بادرته رمزية فحسب بل كانت رهاناً سياسياً على نتانياهو وأجندته.