لا يمكن تفسير قرار المشير خليفة حفتر الدفع بقواته باتجاه العاصمة الليبية طرابلس، إلا بصفته تطورا لا ينفصل عن تبدل بنيوي طرأ على المزاج الدولي العام حيال الأزمة في ليبيا. ولئن يندرج التحرك العسكري الذي أمر به حفتر داخل سياق الحسم العسكري الذي انتهجه الرجل على رأس “الجيش الوطني الليبي” منذ فبراير 2014 للانتهاء من ظواهر الفوضى الميليشياوية، إلا أن استهداف العاصمة الليبية، حيث مقرّ الحكومة المعترف بها دوليا برئاسة فايز السراج، لا يمكن الاكتفاء بقراءته ضمن أبجديات ليبية محلية فقط، بل إن مسارات دولية باتت تشجع على فرض واقع ينهي العبث، غير المفهوم، والذي بات عبئا على كافة العواصم المعنية بشؤون ليبيا وأمن البحر المتوسط.
غير أن فرض أمر واقع لا يعني بالضرورة أنه سيكون ناجزا من خلال الأدوات العسكرية لحفتر. تبدو مسارعة دول، تختلف طبيعتها وطبائعها، للتشديد على أن الحلّ في ليبيا يبقى سياسيا (الولايات المتحدة وإيطاليا والإمارات وفرنسا وبريطانيا)، تؤشر إلى أن الحراك العسكري ليس هدفه الإطاحة بمؤتمر الحوار الوطني الجامع بمدينة غدامس الليبية، والذي تعده الأمم المتحدة خلال هذا الشهر، بل دفع هذا المؤتمر إلى أخذ قرارات تنهي الصراع الليبي على وقع الاستحقاق الناري الحاصل في طرابلس وضواحيها. وما تمسك المبعوث الأممي غسان سلامة بعقد هذا المؤتمر، إلا سعي للدفع بالحل السياسي الليبي الداخلي على وقع المستجد السياسي العسكري في هذا البلد. وقد نكتشف يوما أن حراك حفتر هو ضرورة لمؤتمر سلامة الموعود، دون أن يكون أمر ذلك مدبرا أو مخططا له.
مسارات الصراع
لن يجد المراقب صعوبة كبرى في استنتاج الطابع المفصلي للأدوار التي يلعبها الجانبان، الإقليمي والدولي، في تقرير مسارات الصراع في ليبيا ومصائر اللاعبين داخله. ولا تختلف مآلات الصراع في ليبيا عن تلك التي تجري في ميادين أخرى، لاسيما سوريا واليمن، وبالتالي، ولقراءة المشهد الليبي المستجد، فإنه حريّ محاولة رصد التحولات الخارجية التي أملت شروطا جديدة، وأوحت لحفتر باختيار هذا التوقيت لـ”إسقاط طرابلس”.
أخفق الجهد الخارجي في السنوات الأخيرة في إحداث أي تقدم في منافذ الحل في ليبيا. عجز عن ذلك “اتفاق الصخيرات” في المغرب. بقي الجهد الفرنسي المثير للجدل في السعي لتقريب وجهات النظر بين السراج وحفتر عقيما. عملت روما على مناكفة خطط باريس للإطلالة على ليبيا التي تعتبرها إيطاليا جزءا من فضائها الاستراتيجي. فاقم ذلك التشويش من مستوى التوتر غير المسبوق بين فرنسا وإيطاليا دون أن يحرك شيئا على رقعة الشطرنج الليبية.
حفتر قد يفرض واقعا جديدا ينهي حالة العبث بالبلد
حفتر قد يفرض واقعا جديدا ينهي حالة العبث بالبلد
من جهتها لم تستطع جهود دول الجوار، متعددة الأجندات، بالأبجديات الدبلوماسية، أن تؤثر على موازين القوى الداخلية، ولم تستطع أن تزحزح حالة الستاتيكو العبثي الذي يقسم البلاد بين شرق وغرب، وبين حكومة معترف بها في طرابلس وبرلمان شرعي في طبرق. وفيما يعرف العالم كما الليبيون هوية وخطاب وأجندة القوات التي يقودها حفتر، فإن الأمر يصبح تمرينا مستحيلا في أي محاولة للتعرف على القوات المناوئة لحفتر. يختلط داخل تلك القوى ما هو ميليشياوي مناطقي أو تابع لحكومة الوفاق برئاسة السراج، بتلك المدعومة من قبل جماعة الإخوان المسلمين، أو تلك المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش وبقية الجماعات الجهادية.
وبغضّ النظر عن نتائج الكرّ والفرّ التي ستتغير خرائطها كل ساعة في طرابلس، فإن ليبيا تأخذ علما بالمعطى الجديد بصفته نهائيا داخل توازنات القوى العام في بعده الجغرافي المستحدث. وإذا ما كانت علاقات حفتر مع روسيا ومصر والإمارات، كما زيارته الأخيرة واللافتة إلى الرياض، تفصح عن معالم تيار إقليمي دولي يدعم الرجل، فإن مواقف تركيا وقطر لم توار دعما علنيا مباشرا لتيارات ليبية تنتمي إلى جماعات الإسلام السياسي.
وعلى هذا فإن تحرك حفتر العسكري قد يأخذ بشكل ضمني بعدا يطول الصراع الإقليمي الحاصل منذ مقاطعة الرباعية العربية، السعودية ومصر والإمارات والبحرين لدولة قطر منذ 5 يونيو 2017، وما استتبع ذلك من موقف تركي منحاز للدوحة، بالسياسة والدبلوماسية تارة، وبالدعم العسكري المباشر تارة أخرى.
يقوم تحرك حفتر على أرضية تطورات جرت خلال الأسابيع الأخيرة. لم تعد ليبيا أولوية داهمة بالنسبة للجزائر التي تعيش همّا داخليا غير مسبوق منذ التحرك الشعبي التاريخي ضد نظام عبدالعزيز بوتفليقة والذي أدى إلى استقالته. ولطالما لمحت الجزائر قبل ذلك إلى رفضها تعاظم دور حفتر في ليبيا، ومعارضتها تمدد هذا الدور من الشرق باتجاه الغرب.
ولم تعد ليبيا أولوية بالنسبة للسودان الذي يتعايش نظامه بصعوبة مع أيام حرجة بسبب الحراك الشعبي المطالب برحيل الرئيس عمر حسن البشير ونظامه. ولطالما اتهمت الخرطوم بأنها وراء تهريب السلاح المصنع في السودان لحساب الدوحة وأنقرة.
ويتحرك حفتر بعد أيام على الانتخابات المحلية التركية التي أسست نتائجها لبداية تراجع سطوة حزب العدالة والتنمية بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما سيتداعى حكما على خيارات أنقرة في السياسة الخارجية، بما في ذلك خيارات تركيا بالنسبة للأزمة في ليبيا.
غير أن قراءة حفتر لمشاهد الدول الإقليمية المنخرطة في الصراع الليبي، قد لا تبتعد كثيرا عن قراءة دولية أوروبية أميركية روسية باتت تتوق إلى تغيير اللعبة الليبية باتجاه قواعد جديدة لم تعد مضطرة إلى التعايش مع حالة العبث الأبدي في ليبيا.
ولا يمكن تصور خطوة حفتر، إلا ضمن واقع دولي جديد بات يدفع حفتر إلى اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى صدور بيانات دولية لا يشتم منها الدعم لكن لن يشتم منها الإدانة والاستنكار.
وعلى هذا لم تعد أوروبا مثلا، وكما لمحت صحيفة الغارديان البريطانية، تنظر إلى ليبيا إلا من خلال الدور الذي تلعبه طرابلس في وقف موجات الهجرة ومكافحة الإرهاب وإنتاج النفط.
في هذا الصدد ينبغي تأمل قيام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالتوجه لمقابلة حفتر في بنغازي كمكان يتم التداول فيه حول مستقبل ليبيا، على نحو يؤشر إلى جهوزية المجتمع الدولي المتمثل بمنظمة الأمم المتحدة، التي يقودها غوتيريش، والتي تقود عملية التسوية من خلال المبعوث الأممي غسان سلامة، على معاملة حفتر بصفته بات جزءا حقيقيا واقعيا من الحل في ليبيا.
وتؤشر بيانات التبرؤ من التصعيد العسكري التي صدرت من كافة العواصم المعنية بهذا التبرؤ، وبيانات الدعوة إلى الحل السياسي (لاسيما روسيا ومجموعة الدول السبع)، إلى أن العالم يتدخل للتعامل مع الحالة الشاذة في ليبيا، وأن تقاطعا لمصالح قوى الخارج قد يفرض سيناريو للحل على قاعدة أن حفتر بات شريكا يفرض شروطا داخل هذا الحل، ومن طرابلس بالذات.