نجح بري في تسجيل تمايز محسوب مع «حزب الله»، فهو مع المقاومة، ولكن مَن يقاوم هو «حزب الله»، علاقته بطهران لم تمنعه يوماً من تظهير عمقه العربي، وتحالفه مع إيران والحزب لم يحل يوما دون حفاظه على أفضل العلاقات مع دول الخليج والدول الغربية، ولم يدخل في ايّ مواجهة وحتى سجال مع الرياض في عزّ خلافها مع الحزب، ورفض القتال في سوريا من دون أن ينتقد قتال الحزب، وعلاقته مع النظام السوري ما زالت مقطوعة بسبب سياسة النأي التي اعتمدها مع الحرب السورية.
والتمايز الذي سجّله بري عن «حزب الله» في السياسة الخارجية كان موضع تقدير عربي وغربي، فالدول الخليجية تبادله الحرص نفسه بالحفاظ على أفضل العلاقات معه، والدول الغربية تميِّز بينه وبين الحزب وتنسج معه علاقة ثابتة ليس فقط كرئيس للسلطة التشريعية، بل كجهة تمثِّل الخط الشيعي الذي يجب محاورته والانفتاح عليه.
وتمايُز بري الخارجي عن «حزب الله» لا يقلّ عن تمايُزه الداخلي، فخاض معركة شرسة ضد انتخاب حليف الحزب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ولم تتراجع علاقته برئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط حتى في أسوأ مراحل العلاقة بين الأخير والحزب، وأبقى على خطوط التواصل مفتوحة في استمرار مع تيار «المستقبل» والرئيس سعد الحريري تحديداً، وكان أوّل مَن نعى الاصطفاف العمودي بين 8 و 14 آذار وكأنه ينتظر اللحظة للتخلص من هذا الانقسام.
والفكرة التي اعتمدتها الدول الغربية والعربية والقوى المحلية التي تختلف مع «حزب الله» تستند إلى مبدأ الحفاظ على خط علاقة مع البيئة الشيعية، ولا يهمّ إذا كانت تعتقد في العمق انّ في إمكانها فصله عن الحزب أم انّ تمايزه عن الأخير شكلي وينمّ عن توزيع أدوار، فما يهمها تجنُّب القطيعة مع طائفة برمتها في ظل غياب أيّ تمثيل شيعي رسمي أو وازن خارج الثنائية الحزبية الشيعية، لأنّ أيَّ قطيعة من هذا النوع تقوّي الخط المتشدد وتظهر انّ سياساته على حق، وأنّ هناك مؤامرة لتطويع هذه البيئة، فيما من مصلحتها توسيع التمايز عن طريق تطمين البيئة الشيعية الى أنها غير مستهدَفة بخياراتها ورموزها، وانّ الاستهداف ينحصر في «حزب الله» ربطاً بأدواره الخارجية أكثر منها المحلية، خصوصا ان لا تمايز في مفهوم المقاومة بين الحزب والحركة، إنما مكمن التمايز هو في انّ «أمل» قوة لبنانية محلية، فيما الحزب يتدخّل في الشؤون الخارجية، وتذكِّر بأنّ القطيعة السعودية مع «حزب الله» لم تبدأ مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري ولا مع استخدام سلاحه في بيروت والجبل ولا مع إسقاط حكومة الحريري، بل بدأت مع دخوله الحرب السورية والتدخل في الساحات العربية.
فهناك مَن يواصل الرهان على فصل بري عن الحزب، فيما يواصل بري سياسة التمايز نفسها من دون أن يصل إلى حدّ الفصل الذي يؤدي الى تفجير الساحة الشيعية، واستطراداً اللبنانية، وبمعزل عن إقتناع بري الداخلي المؤيّد في الجوهر او في الشكل لسياسة الحزب، فإنه يتعامل مع هذا الواقع على غرار تعامل معظم القوى السياسية من انّ المدخل الى حلّ هذه الإشكالية يكمن في الحلّ مع إيران، وانه في انتظار هذه التسوية لا مصلحة بتفجير التناقضات اللبنانية.
وبمعزل ايضاً عمّا اذا كان هناك من توزيع أدوار في العمق أولويته إبقاء الطائفة الشيعية في مأمن في حال انتصار خيار على حساب خيار آخر، فإنّ خسارة الحزب مثلاً لخياره الإقليمي لن يُدخل الطائفة في إحباط ما بعده إحباط على غرار ما حصل مع المسيحيين مع الانقلاب على اتفاق الطائف، حيث إنّ وجود بري يشكل تطميناً عملياً ومعنوياً، ومن هنا لا يستطيع بري أن يكون بعيداً عن خيارات بيئته، ولا الرهان على أمر من هذا النوع في محله.
ولا بل هناك مَن يعتبر انّ بري أكثر تشدّداً من «حزب الله» في الحياة السياسية اللبنانية والتوازنات الداخلية لسببين أساسيين، لأنّ أولويته داخلية لا خارجية، ولكونه عايش الجمهورية الأولى، وبالتالي خلافه مع الحزب على هذا المستوى قد يكون كبيراً، وليس المجال اليوم للتوسع في هذا الاتجاه، ولكن الأكيد انّ المقاربة الداخلية للحزب تختلف عن مقاربة بري التي هي أقرب إلى ثلاثية «أمل» و«المستقبل» و«الاشتراكي» منها إلى استعداد الحزب للانفتاح على المكونات المسيحية التمثيلية.
وفي كل هذا المشهد المصلحة اللبنانية تستدعي عدم التعامل مع «حزب الله» و«أمل» كونهما وجهين لعملة واحدة، وحتى لو فعلا هما كذلك، لأن لا مصلحة إطلاقاً في عزل طائفة بكاملها، خصوصاً انّ لبنان قد نجح حتى اليوم في التمييز بين لبنان الرسمي والحزب، وفي ظل تحييد المجتمعين الدولي والعربي لبنان الرسمي عن العقوبات على الحزب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل في إستطاعة لبنان أن يحافظ على هذا التمييز في حال شمول العقوبات رئيس السلطة التشريعية في لبنان؟ وألا يعني أساساً عدم التمييز الأميركي بين الحزب وبري أنه ينمّ عن قرار بإسقاط التمييز بين لبنان الرسمي والحزب واستطراداً بري، ما يعني وجود إرادة لنقل المشكلة الى الداخل اللبناني والتي تبدأ بعزل الطائفة الشيعية ولا تنتهي بتخيير لبنان بين القطيعة مع الثنائية الشيعية او شموله بالعزلة؟
ولا حاجة إلى التذكير في أن لا تمثيل شيعياً خارج الثنائية الشيعية، وايّ تمدّد للعقوبات سينعكس على الوضع اللبناني برمته، ويؤشر الى وجود استراتيجية جديدة في التعامل مع لبنان، فيما نجحت الاستراتيجية القائمة في الحفاظ على الاستقرار اللبناني. فالقطيعة مع «حزب الله» ممكنة وحاصلة، ولكنّ القطيعة مع رأس السلطة التشريعية ومع كل التمثيل الشيعي تنمّ عن خطوة تصعيدية يصعب التكهّن بمؤدّياتها والمسار الذي يمكن أن تسلكه.
فهل ما صدر من تقارير مجرد تهويل سياسي قديم - جديد في ظل مصلحة أميركية ودولية وعربية في الحفاظ على الاستقرار اللبناني، ام أنّ ّّثمّة تبدّلاً في السياسة الأميركية حيال لبنان يتزامن مع ارتفاع منسوب المواجهة الأميركية - الإيرانية؟ حتى اللحظة يمكن إدراج هذا الواقع ضمن التهويل السياسي لا أكثر
ولا أقل.