دخل لبنان مرحلة حاسمة مع ترقب قيام الحكومة بإجراءات للإصلاح المالي، ويأتي ذلك بالتوازي مع إقرار الموازنة «التقشفية» للعام الحالي، وما تفضي عنه من معالجة العجز المالي الذي ارتقى إلى 11.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام الماضي، وتتطلع الحكومة لخفضه لنسبة تتراوح بين 8 إلى 5 في المائة خلال 5 سنوات.
وإذ يبدو المشهد العام زاخرا بأخبار وتأويلات حول توجهات إعداد مشروع الموازنة وكيفية توفير نحو 1.5 مليار دولار للفترة المتبقية من العام الحالي، عبر خفض الإنفاق وتحسين واردات الخزينة، يرتقب أن يعود ملف الكهرباء، بعجزه البالغ نحو 10 في المائة من إجمالي الإنفاق في الموازنة، إلى مجلس الوزراء لإقرار الخطة المتكاملة، بعدما تم سابقا تغطية نحو 800 مليون دولار من الاحتياجات المالية لشراء الوقود لصالح معامل الإنتاج.
وبحسب أحدث بيانات الموازنة المعلنة، ارتفعت نسبة العجز من إجمالي النفقات إلى 35 في المائة لغاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، مقابل 24.76 في المائة في الفترة نفسها من العام 2017، وقد ارتفع العجز الإجمالي للموازنة إلى 5.8 مليار دولار خلال فترة الأحد عشر شهراً الأولى من العام 2018، مقارنة بعجزٍ بلغ 3.37 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2017، حيث ارتفعت إيرادات الدولة (موازنة وخزينة) بنسبة 4.74 في المائة سنويّاً إلى 10.75 مليار دولار، في حين زادت نفقات الدولة (موازنة وخزينة) بنسبة 21.41 في المائة على صعيدٍ سنوي، لتتجاوز 16.55 مليار دولار.
ولا تزال خدمة الدين تستنزف الماليّة العامّة بحيث نَمَت بنسبة 10.39 في المائة على صعيد سنوي إلى 5.32 مليار دولار، مقابل 4.82 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2017.
ووفق معلومات توفرت لـ«الشرق الأوسط» من مصادر معنية ومطلعة، فإن المعالجات الأساسية للوضع المالي في البلاد، ستتوزع على الثلاثي المالي المكون من وزارة المال ومصرف لبنان المركزي والجهاز المصرفي.
ومن المفترض أن يضمن هذا التوزيع إحداث صدمة إيجابية سريعة تحد من سرعة الانهيار الحاصل في المالية العامة والأداء الاقتصادي، وتستجيب للمواصفات التي حددتها الدول والمؤسسات الداعمة في مؤتمر «سيدر»، والذي انعقد في أبريل (نيسان) من العام الماضي، وتكفل بضخ نحو 11.6 مليار دولار، أغلبها على شكل قروض ميسرة للقطاعين العام والخاص وجزء منها على سبيل المنح.
ووفق السيناريو المرتقب، ستحيل وزارة المال قريبا مسودة مشروع قانون الموازنة إلى الحكومة على أن يتم تخصيص جلسات متتابعة لإقراره وإحالته إلى مجلس النواب، ليتم عقد جلسات مناقشة وإقرار للقانون ضمن مهلة زمنية يؤمل أن تسبق بداية شهر رمضان المقبل، أي في أوائل مايو (أيار) المقبل. وبذلك يمكن للحكومة بدء الصرف وفق الموازنة اعتبارا من يونيو (حزيران). علما بأن التفويض المعطى لها تشريعيا للصرف على القاعدة الاثنى عشرية ينتهي مفعوله في التوقيت عينه.
ومع ترقب البرنامج المالي التقشفي الذي ستقترحه وزارة المال، ترجح المعلومات أن يشكل التوجه لخفض رواتب ومخصصات الرؤساء والوزراء والنواب وإلغاء الجزء الأكبر من «المعونات» لمؤسسات ومدارس خاصة ومهرجانات ونقابات، مظلة حماية وحفز لتمدد اتخاذ تدابير أقل قسوة تطال كتلة الرتب والأجور في القطاع العام. بينما شكل اقتراح مشروع قانون لإلغاء كامل الإعفاءات الجمركية والشروع بالتشدد في مكافحة الهدر والفساد في أغلب البوابات البرية والجوية إشارة واعدة لإمكانية حصول تحسن كبير في واردات الخزينة، وخصوصا بعد الكشف عن عمليات تحايل واسعة النطاق في تقدير فواتير المستوردات، وبما يصل أحيانا إلى أكثر من 50 في المائة من قيمتها الحقيقية.
ويفترض «المتفائلون» أن يتضمن البرنامج المالي، الذي يهدف لتعديل مشروع الموازنة، وتم التشاور في بنوده بين رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير المال علي حسن خليل، إقدام الحكومة على سلسلة مبادرات جريئة والتصدي بحزم لمخالفات منع التوظيف في القطاع العام وتوحيد معايير المساعدات الاجتماعية والصحية وسائر المخصصات الملحقة بالرواتب وإعادة تنظيم الأنظمة التقاعدية على قاعدة التساوي في الحقوق. فهذه الإجراءات تضمن إلى جانب تخفيف أعباء الرواتب خفضا وازنا من الإنفاق.
ويعكف مصرف لبنان على الخط الثاني للمعالجات تحت عنوان مواكبة الاحتياجات المالية للدولة. ويرتقب، في هذا السياق أن يتولى تغطية استحقاقات سندات دين دولية للعام الحالي بقيمة تصل إلى 2.65 مليار دولار. وذلك من خلال عملية مبادلة مالية لإصدار خاص (سواب) تجريها معه وزارة المال مقابل الاكتتاب بسندات خزينة بالليرة وبفوائد مخفضة، تكفل مد الخزينة بسيولة تحتاجها. بينما يعمل البنك المركزي لاحقا على إعادة تسويق السندات الدولية محليا وخارجيا. ويعزز هذه المعلومات عدم إقدام وزارة المال على تكليف مصارف محلية أو خارجية بإصدار جديد أو أكثر لتغطية استحقاق سندات «يوروبوندز» يبدأ استحقاقها نهاية الشهر الحالي والشهر التالي بقيمة تزيد عن المليار دولار.
كما يرتقب أن يكون للبنك المركزي دور في إقناع المصارف بالاكتتاب في سندات خزينة بالليرة وبالدولار بفوائد صفرية أو مخفضة للغاية بهدف تخفيف ضغط الدين العام على الموازنة التقشفية. ويرجح ألا تقل الاكتتابات عن 5 مليارات دولار في المرحلة الأولى. وسبق للمصارف أن وظفت نحو 10 في المائة من إجمالي الودائع لديها بسندات حكومية ناهزت 3.6 مليارات دولار دون فائدة لمدة ثلاث سنوات ضمن مساعيها لتثمير نتائج مؤتمر باريس2 في العام 2002.
وثمة إشارات بأن المصارف ستسير في هذا الخيار بشرط إقرار الموازنة التقشفية والشروع الفعلي بتنفيذ خطة إصلاحات شاملة إدارية ومالية من شأنها فتح الأفق المسدود أمام إعادة تنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمارات الخارجية والتطلع إلى تحقيق نسب نمو تتراوح بين 3 و5 في المائة، بالتزامن مع كبح نمو الدين العام. علما بأن الشروع بحفر الآبار النفطية في المياه الإقليمية أواخر العام الحالي وتوقع الآثار الإيجابية لرفع الحظر على السياحة الخليجية إلى لبنان، يشكلان دعما قويا للاقتصاد في المرحلة المقبلة.
ويشكل الدين العام، الذي يبلغ نحو 87 مليار دولار، منها نحو 34 مليار دولار محررة بالدولار أغلبها سندات دين دولية، نقطة الثقل الثانية في الإنفاق العام، وتكفلت خدمته السنوية من فوائد وأقساط مستحقة باستهلاك نحو 5.5 مليار دولار في العام الماضي. ولا يمثل الدين بالليرة عبئا طارئا كونه موزع بين البنك المركزي والمصارف ومؤسسات مالية واجتماعية محلية.