رحلة الاحتلال الأميركي للعراق، دخلت في التاسع من أبريل 2003 خطوتها العملية بالاستيلاء على العاصمة بغداد بتلك المظاهر في ساحة الفردوس بين رفع العلم الأميركي أو راية العراق. ومن يتتبع ما حصل بعدها يكتشف أن الولايات المتحدة الأميركية تنازعتها قوى متعددة بعد استنفاد المشهد الإعلامي الذي جاءت من أجله بقواتها وجحافلها.
أولى القوى كانت خيبة الأمل من عدم العثور على أسلحة الدمار الشامل، ولو ضمن حدود صغيرة لأهداف بحثية أو دفاعية عند الضرورة، خارج ما أوردته تقارير لجنة التقصي عن الحقائق التابعة للأمم المتحدة ومنظمة الطاقة النووية، وقد خلق ذلك ردود أفعال مستهجنة انتهت باعترافات الرئيس جورج بوش الابن بالخطأ الاستراتيجي الذي اعتمدته الإدارة الأميركية كمعلومات في اتخاذ قرار الحرب، لكنه مضى في الإشادة بصواب الحرب بما حققته من إزالة للنظام السياسي وإقامة الديمقراطية.
الشيء الأهم الذي تبلور في مفاصل النظام الأميركي وظهر على السطح مبكرا في بوادر أزمة اقتصادية هو إنفاق وتبديد الأموال الطائلة في غير محلها، لأن من نصّبتهم واشنطن حكاما مع أحزابهم بخلفيات انتماءاتهم كانوا على استعداد فكري ونفسي وتنظيمي للتخلي عنها والارتماء في حضن دولة ولاية الفقيه ومشاريعها، تنفيذا لمصالحها في البلد الذي خاضت معه حربا مدمرة شاركت فيها معظم القوى التي وجدت دعما من الولايات المتحدة قبل الاحتلال وبعده.
أي إن إيران، بحمولة تاريخ ثورة الملالي من العنف والدم الذي بدأ مع احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية بطهران، وصولا إلى سلسلة التفجيرات المروعة في لبنان، تسلمت مقاليد السلطة في العراق بصفقة مشبوهة تشابكت فيها الأحداث والأزمات والمقاربات وبسياسة تخادم أنتجت النظام الحالي في العراق الذي افتقد إلى هوية النظام السياسي لتلونه المستمر في طروحات وتوجهات تحكمها المزاجات والعلاقات الشخصية بنماذج الأحزاب وميولها الطائفية والجهوية، بما جعل من مناهج وقواعد الديمقراطية مصدرا لتطبيقات مزيفة أضاعت الوقت واستنفرت الصراعات الدموية استنادا إلى شرعية صناديق الانتخاب التي وفرت الغطاء لتجميع الأدوات المتفرقة والمتباينة لولاية المرشد الإيراني لبناء نظام هجين بتوليفة غريبة من الأحكام المعاصرة وظلامية عقول الاستبداد والتشدد الديني، بما عبرت عنه قوة الاحتلال بصيغة ترشيد مصادر الاختلاف وشتاته بنظام المحاصصة الطائفية والقومية السياسية، وذلك بتكليف الشخصيات في تدوير الرئاسة الشهرية لمجلس الحكم، بطريقة فيها من الهزل والاستخفاف ما يتناسب وطبيعة وميول ولهفة وطموحات الراغبين بتجريب السلطة.
فترة التمهيد بعد الاحتلال، إن شئنا أن نطلق عليها المرحلة الانتقالية التي سبقت أول انتخابات لاختيار المرشحين لمجلس النواب في العراق، أخفقت في الإعداد لتنمية اقتصادية وتربوية كان العراقيون بأمسّ الحاجة إليها للخلاص ولو من أجزاء صعبة طبعت حياتهم بآثار العقوبات ومردوداتها السلبية الخطيرة، وهو ما يفسر لنا الارتداد نحو الطقوس والانجراف إلى أقصى مدى التعصب الطائفي والعشائري والديني والقومي والإثني. فجأة وجد العراقيون أنفسهم كتلا بمقاسات صغيرة وكبيرة، منكفئة على الدفاع عن وجودها ومصالحها بمن يمثلها في زحمة الحكم والسلطة.
كان ذلك إنذارا لاستنهاض ذاكرة الخلاف والطموحات ونيل الحقوق بالتدافع خوفا من ضياعها، أو التأسيس على هذا الضياع ومنها رؤى مجتمعية وثقافية ضاع صوتها وسط ضجيج وهيمنة إطلاق كمية من شعارات عقائدية في الشارع، أريد لها أن تكون في خدمة مشاريع الأحزاب الإسلامية، وهي أحزاب طائفية استثمرت التغيير بالمطلق لأجنداتها وما زالت.
16 سنة مرت على احتلال العراق والمشهد يبدو أكثر قتامة وسوداوية، لكن من بين انعدام الثقة بالنظام السياسي ما يشكل أكثر من صدمة على مستوى التراجع والعبث في مقومات وكيان الدولة، وتستشعر به الدولة ذاتها برئاساتها الثلاث إلى حدّ أن رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي اضطر إلى القول بعدم السماح للسلاح المنفلت بتهديد هيبة الدولة ومنتسبيها الأمنيين، في إشارة، وإن كانت لا ترتقي إلى القوة والحزم وقول الحقيقة بالمطلق، توجهت للاعتراف ومعالجة ظواهر تجرأت فيها مجموعات عشائرية أو حزبية أو ميليشيوية على رموز تمثل سلطة الدولة في الشارع.
الشهور والأيام الأخيرة بينت أن الاحتلال جاء بإنزال جوي ومظلي بهؤلاء السياسيين الذين عصفت بهم ظنون استتباب الأوضاع لصالحهم لانغماسهم في أوهام السلطة وقوة السلاح والأخذ بزمام المال العام.
حالة استياء في المحافظات بلغت ذروتها بالمطالبة بالأقاليم في الموصل أو البصرة، وأعلنت ما يشبه الاستنفار لدرء ما يمكن أن يعصف بالنظام السياسي للاحتلال وإفرازاته وأمراضه المستعصية، لذلك تتصاعد المخاوف من غضب شعبي استعرت نيرانه في الصيف الماضي وأحرقت أوراقا لتصورات وأجندات، وكادت تشعل فتيلا لثورة شعبية لولا تعزيزات العنف التي وصلت إلى البصرة وغيرها من مدن جنوب العراق.
ما يبعث على الأمل بعد 16 سنة من الاحتلال أن النظام السياسي هو الآخر مصاب بالإحباط من هلوسة الأحزاب والميليشيات التي حكمت طيلة السنوات الماضية، لذا فإن الذهاب إلى الأقاليم في الوقت الحاضر لا يعني بالضرورة ذهابا إلى المزيد من الانقسام وإن كان واردا، بقدر ما فيه من رغبة لرفض تراكمات الاحتلال وأزماته ومصائبه، ولو كبديل عن صوت حراك شعبي يدرك حجم ومصادر ما سيجابه به من قوة.
صوت الأقاليم هو صوت مستتر بالدستور والقوانين لتجنب استخدام العنف المفرط من الميليشيات التي تؤدي مهام الحرس الثوري في حماية نظام ولاية الفقيه من انتفاضة الشعوب الإيرانية وبذات المهام والامتيازات والتسليح وبحماية قانون من تشريع برلمان العراق وبدعم من فتوى مذهبية صنعت من الحشد “الشعبي” قوة فوق قوة الدولة.
للغضب في العراق روافد عديدة بعضها في إطلاق الكراهية والإرهاب وتدمير المدن والآخر في منتجات خيام النزوح والبطالة والجوع والتهجير والمافيات ونقص الخدمات والتلوث والقمع والسلاح المنتشر، لذلك فإن ما يردده الرئيس برهم صالح من أن العراق لا يريد أن يكون ساحة تصفيات ينطبق أولا على الوضع المحلي بمؤشرات الاستياء من نظام سياسي لا يمتلك استراتيجيات الدولة الحديثة المستقلة بقرارها وقوة سلاحها الشرعي. حينها فقط يمكننا رؤية ما يجود به المستقبل من صدمات تتصل بالتنمية والعلوم وسباق التكنولوجيا والاتصالات، ومعها استحقاقات حقوق الإنسان في الرفاهية والعيش الكريم في الوطن.