يكاد لا يخلو يوم أو حتى ساعة واحدة من دون ان تصدر عن قصر بعبدا، معلومات عن اجتماعات متلاحقة يعقدها رئيس الجمهورية، ومخصصة لموضوع الفساد وضرورة ملاحقته من دون أية هوادة لاجتثاثه من جذوره. ووفقاً لهذه المعلومات، تركز بعبدا حالياً على الجسم القضائي كخطوة لا بدّ منها للسير على الطريق الصحيح الذي يقضي إلى أفضل النتائج المطلوبة على هذا الصعيد، وفي نفس الوقت لا يجد المواطن اللبناني أي اهتمام من قبل السلطة الاجرائية، أي الحكومة يدل على انها تلاقي رئيس الجمهورية على نفس الطريق، وكأن البلد محكوم بسلطتين، سلطة رئيس الجمهورية غير الموجودة أصلاً بحكم دستور الطائف، ووثيقة الوفاق الوطني التي أقرها اتفاق الطائف، وسلطة الحكومة التي أناط بها وحدها هذا الاتفاق كل الصلاحيات الاجرائية والتنفيذية على حدّ سواء.
وعلى افتراض ان هناك تنسيقاً بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، تخلى رئيس الحكومة بموجبه عن صلاحياته أو أراد أن يعطي رئيس الجمهورية القوي بفعل سيطرته هو وحزبه على أكثرية الثلث المعطل أو الضامن داخل مجلس الوزراء، فإن المسار الذي تأخذه الحركة الرئاسية على صعيد محاربة الفساد لا يؤدي الى النتيجة التي يتوخاها اللبنانيون، لأن الآلية المعتمدة من قبل بعبدا على هذا الصعيد انطلقت من خطأ، وستؤول بالتالي الى نتائج خاطئة تماماً. ذلك لأن محاربة الفساد لا تبدأ من قاعدة الهرم في ظل نظام يقوم على حكم الطوائف، وأمراء هذه الطوائف، وسبق لعهود غابرة أن حاولت محاربة الفساد وفقاً لهذه القاعدة، أي من تحت، وكانت النتائج مخيبة لآمال اللبنانيين بمعنى أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، وبدلاً من أن يُستأصل الفساد من جسم الدولة ازداد انتشاراً إلى ان وصلت الدولة اللبنانية إلى ما وصلت إليه اليوم، وأصبح الفساد سلوكاً عاماً لا يحترم أي قانون أو تشريع بل إن محاربة الفساد إذا كان الأمر جدياً وليس من أجل تحقيق مكاسب شعبية يبدأ من رأس الهرم نزولاً الى القاعدة، لأن الفاسدين موجودون في السلطة أي في رأس الهرم وما لم يُحاسبوا هم أولاً على فسادهم ويتم ابعادهم عن السلطة يستحيل على أية جهة مهما امتلكت من قدرات وامكانيات وصلاحيات ان تقطع دابر الفساد من القاعدة علماً بأن الذين توالوا على السلطة منذ عهود بعيدة، وضع بعضهم القواعد الصحيحة والسليمة لاجتثاث الفساد المستشري وكرسها بقوانين لكنها مع الأسف الشديد بقيت بلا تنفيذ، لأنه لم يقيّض لهذا البلد سلطة منزهة عن المصالح لوضعها موضع التنفيذ، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر قانون من أين لك هذا؟ الذي كان وراءه الشهيد كمال جنبلاط وأقر في خمسينيات القرن الماضي، وبعده القانون المتعلق بوجوب الكشف عن السرية المصرفية لكل من يعمل في الحقل العام وإلى قوانين أخرى لا ضرورة لإعادة التذكير بها كلها تنص على ان اجتثاث الفساد يبدأ من رأس الهرم ونزولاً إلى القاعدة، وليس العكس هو الصحيح، كما هو الحال المتبع اليوم من قبل رئيس الجمهورية وغيره من الذين يتباكون على أموال الخزينة ويحذرون من قرب الانهيار المحتم للدولة في حال استمرت الأمور كما هي عليه اليوم من الفوضى والضياع ومن سياسة تقاسم الحصص وتوزيعها على جيوب المنتفعين الكبار من ان تدخل إلى الخزينة لتنفق في الأوجه الصحيحة التي من شأنها تقوية الدولة، وحمايتها من الأحداث الطارئة أو من الظروف الاستثنائية التي تتجاوز قدرتها على استيعابها وتفادي تأثيراتها السلبية على مسيرة النهوض والتقدم والازدهار.
تقول الحكومة انها وضعت مشروع قانون يتعلق بالاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد وسوف تعرضه قريباً على مجلس الوزراء ليأخذ طريقه إلى المجلس النيابي. مما لا شك فيه انه خطوة أولى على الطريق الصحيح، نأمل ألا يتأخر مجلس الوزراء في اقراره، ونأمل في ذات الوقت ان يتجاوب مجلس النواب ولا يُدفن في أدراج رئاسة المجلس أو يُشوّه بين اللجان النيابية ويُفرغ من كل مضمونه كما درجت العادة في هذا البلد العجيب الغريب المحكوم بطبقة سياسية همّها الأول والأخير الحفاظ على مواقعها على حساب الشعب الذي أصبح نصفه تحت خط الفقر.