مع إسدال الستار على عهد عبدالعزيز بوتفليقة الذي استمرّ عشرين عاما، بينها ست سنوات كانت فيها الحلقة الضيّقة المحيطة به في موقع الرئيس، بدأت تبرز ملامح صراع من نوع مختلف. يتوقّع أن يكون هذا الصراع مرتبطا بمستقبل النظام الذي سيكون عليه المحافظة على السلم الاجتماعي، والحؤول في الوقت ذاته دون انفجار كبير على نسق ذلك الذي حصل في تشرين الأوّل – أكتوبر من العام 1988 في عهد الشاذلي بن جديد. لا يزال الجزائريون يعيشون إلى اليوم في ظل هاجس أحداث 1988 وما تلاها من مذابح استمرّت عشر سنوات عرفت بـ”عشرية الرماد” أو “الجمر”.
ما حصل في الجزائر، يوم الثلاثاء الواقع فيه الثاني من نيسان – أبريل 2019، انقلاب عسكري بكلّ معنى الكلمة. استظلّ الانقلاب بالحراك الشعبي ردّا على سعي الحلقة الضيقة المحيطة ببوتفليقة إلى ترشيحه لولاية خامسة، بما يسيء إلى الرئيس الجزائري المستقيل أكثر من أي أحد آخر.
بعد الفشل في ترشيح بوتفليقة، لجأ لأفراد الحلقة إلى تمديد الولاية الرئاسية عن طريق “الندوة الوطنية”. فشل هؤلاء في ذلك أيضا. تحرّك الجيش عبر نائب وزير الدفاع رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح وأجبر الرئيس على الاستقالة قبل ثلاثة أسابيع من انتهاء ولايته. ما يؤكد حدوث الانقلاب وصف قايد صالح المحيطين ببوتفليقة بـ”العصابة”. سيلاحق هؤلاء في قضايا مالية.
لا شكّ أن توقيف علي حداد، رجل الأعمال ومموّل الحملات الانتخابية لبوتفليقة، الذي كان يحاول الهرب من الجزائر، عبر الحدود التونسية، ليس سوى أوّل الغيث. سيلاحق سعيد بوتفليقة الذي ترددت أنباء عن أنه في الإقامة الجبرية، كما سيلاحق شكيب خليل وزير النفط بين 1999 و2010 الذي وجد من يعيد له الاعتبار، بقدرة قادر، في العام 2013 بعدما دانه القضاء الجزائري. ليس مستبعدا أيضا ملاحقة فريد بدجاوي الذي يحمل أربع جنسيات مختلفة والذي أدخل شركة نفطية إيطالية كبيرة إلى الجزائر ومكّنها، من دون أن يكون موجودا في الأراضي الجزائرية بين العامين 2007 و2009، من الحصول على عقود بمليارات الدولارات.
لا بدّ من الاعتراف بأنّ المؤسسة العسكرية ما زالت تعتبر نفسها مرجعية النظام. لذلك اعتبرت نفسها في العام 1988 حامية الجمهورية في وجه “الجبهة الإسلامية للإنقاذ الوطني” وما تفرّع عنها من جماعات إرهابية. تبيّن في تلك المرحلة أنّ “جبهة الإنقاذ” كانت الحزب الوحيد المنظّم في الجزائر. استطاعت من هذا المنطلق استيعاب الحراك الشعبي في وجه ما يسمّيه الجزائريون “السلطة”. ظهر ذلك جليّا عندما اكتسح الإسلاميون الانتخابات البلدية واستعدّوا في العام 1991 لتولّي السلطة في ظلّ تراخي رئيس الجمهورية ذي الخبرة السياسية المحدودة. أخذ الجيش الأمور بيده وألغى نتائج الانتخابات البلدية وسعى إلى استئصال الإرهاب من جذوره.
ما أشبه اليوم بالبارحة. هناك تدخّل واضح للمؤسّسة العسكرية الجزائرية على الرغم من وجود تباينات قديمة بين الأجنحة المختلفة في داخل المؤسسة نفسها. إلى الآن، ليس واضحا من كان وراء اغتيال محمد بوضياف في 1992. كان بوضياف أحد القادة التاريخيين للثورة الجزائرية وقد استعان به العسكر بعد إزاحتهم الشاذلي بن جديد الذي لم يستوعب في أيّ لحظة عمق الأزمة الجزائرية من جهة، والأسباب التي أدّت إلى الانتفاضة الشعبية الواسعة في خريف 1988.
إلى الآن أيضا، ليس هناك من يستكمل التحقيق في اغتيال المسؤول عن الأمن العسكري قاصدي مرباح الذي قُتل مع نجله في العام 1993. كان مرباح وراء استبعاد بوتفليقة من سباق الرئاسة في 1979 ليكون خليفة هواري بومدين. هناك أسئلة كثيرة من هذا النوع، بما في ذلك سؤال هل صحيح أنّ أحداث عنف وقفت خلفها المؤسسة العسكرية وأجهزتها شملت خطف رهبان كانوا في دير تبحيرين المعروف وقتلهم في آذار – مارس 1996… أم أن كلّ ذلك مجرّد روايات مختلقة وأنّ “الجيش الشعبي” لم تكن لديه من مهمّة سوى إنقاذ الجمهورية، على حد تعبير عدد من كبار الضباط النافذين.
لن يعود الموضوع الذي سيطرح نفسه في الأيّام المقبلة من سيخلف بوتفليقة بمقدار ما أنّ الموضوع سيكون هل ستقوم الجمهورية الثانية في الجزائر؟ هل يسمح الجيش بقيام نظام الجمهورية الثانية في الجزائر، أم تكتشف المؤسسة العسكرية مرّة أخرى أنّ الحزب الوحيد الذي يمتلك تنظيما حقيقيا هو حزب الإخوان المسلمين الذي فرّخ بطريقة أخرى إثر فشله في مرحلة ما بعد 1988 في تنفيذ الانقلاب الذي كان يطمح إليه؟
سيتوقّف الكثير على ما إذا هناك ما يكفي من الوعي في أوساط المجتمع المدني لفرض الجمهورية الثانية على المؤسسة العسكرية وعلى الإخوان المسلمين في الوقت ذاته.
بعد الانقلاب العسكري الأخير، دخلت الجزائر مرحلة جديدة. أظهر المجتمع المدني حيوية كبيرة عندما نزل بكثافة كلّ يوم جمعة منذ ما يزيد على شهر إلى الشارع، وأكّد أنّه لن يقبل مهزلة جديدة من نوع “العهدة الخامسة” لعبدالعزيز بوتفليقة أو التمديد له بطريقة أو بأخرى. أكّد المجتمع المدني أنّه موجود، لكنه تبيّن أيضا أنّه لا يمكن الاستخفاف بالإخوان ومن لفّ لفهم الذين يتحينون الفرصة للانقضاض على النظام عبر صناديق الاقتراع، أو أيّ وسيلة أخرى يجدونها مناسبة. هؤلاء الإخوان صارت لديهم جذور عميقة في الجزائر في ضوء الأخطاء القاتلة التي ارتكبها هواري بومدين، ثمّ تهاون الشاذلي بن جديد بين 1979 وأواخر 1991، أي إلى ما قبل أسابيع قليلة من اضطراره إلى الاستقالة مطلع 1992.
لا شكّ أن المؤسسة العسكرية الجزائرية استطاعت التقاط أنفاسها، على الرغم من كلّ ما تعرّضت له في عهد بوتفليقة من أجل تحويلها إلى أداة طيعة في يد الحلقة الضيّقة المحيطة به.
إلى الآن تشدّد المؤسسة العسكرية على أهمية الانحياز إلى المطالب الشعبية، ولكن ماذا سيفعل العسكر في حال شعروا أنّ “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” أطلّت برأسها من جديد، وأنّ شيوخا من نوع عباسي مدني وعلي بلحاج ينتظرون الفرصة المناسبة لتأكيد تحكّمهم الفعلي بالشارع بعدما ينصرف المواطنون من أصحاب النيات الطيبة إلى منازلهم؟
إنّه بالفعل سؤال محيّر يفرض على المؤسسة العسكرية البحث في أسرع ما يمكن عن شخصية ذات وزن تستطيع خلافة بوتفليقة. الأهمّ من ذلك كلّه أن تكون لهذه الشخصية القدرة على المساعدة في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي يعرف العسكر، قبل غيرهم، أنّها أزمة عميقة في غاية الخطورة، وهي تفرض مصالحة الجزائر مع المنطق.
إنّه المنطق الذي يقول إنّ شراء السلم الاجتماعي بأموال النفط والغاز لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية، وأن الجزائر في حاجة إلى دخول عهد الجمهورية الثانية بدءا بالتخلّي عن وهم القوّة الإقليمية ذات الدور الكبير. فإيجاد فرص عمل لمئات آلاف الشبان الجزائريين يظل أهمّ بكثير من بيع الأوهام عن قوّة الجزائر ونفوذها خارج حدودها.