يعترف زوار واشنطن عند رصدهم المواقف التي شهدتها الساحة اللبنانية من ملفات عدة تعني لبنان واللبنانيين وأبناء المنطقة بكاملها أنها كانت وما زالت موضع رصد ومتابعة وتحليل بحثا عن خلفياتها وسعياً الى إستشكاف اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة اللبنانية وادوارهم ومراميهم تمهيداً لإتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب.
وإن توقف هؤلاء الزوار امام ملف النازحين خصوصاً يتكشف لديهم كثير من المواقف الأميركية التي لم تتبدل بعد على رغم من سعي البعض الى ترجمة بعضها على غير مراميها، سواء عن قصد أو عن رغبة في ان تكون هذه المواقف اكثر تفهّما للوضع اللبناني نتيجة المعاناة التي يعيشها لبنان الرسمي والشعبي بمختلف شرائحه ومناطقه. فالترددات الكبيرة التي عكستها ازمة وجود اكثر من مليون ونصف مليون سوري بين نازح أمني وإقتصادي أو من ايّ نوع كان، لا يستطيع لبنان استيعابها وتحمل تبعاتها الى النهايات الخطيرة المتوقعة والتي تتكشف جوانب منها يوما بعد يوم بنحو لا يقوى لبنان على تحمل نتائجها.
ولذلك يصرّ زوار واشنطن على ضرورة مقاربة هذا الملف من جوانب مختلفة عن تلك التي يدار من خلالها اليوم، فالإشادة بموقف وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو امام لجنة فرعية من لجنة الشؤون الخارجية الأميركية في الكونغرس الأميركي لا تستأهل التعليق «المُرحِّب» الذي اطلقه وزير الخارجية جبران باسيل وردده كثيرون من خلفه وصوروه على انه تطور مهم في الموقف الأميركي نتيجة ما سمعه بومبيو من المسؤولين اللبنانيين. ولذلك فهم يرون ان موقف بومبيو لا يحمل اي إشارة الى تغييرات في الموقف الأميركي، فهو كان وما زال يتطلع بقلق الى النتائج التي ترتبت على ما عاناه لبنان من حجم النزوح ونوعيته ومدى تأثيره على النسيج الإجتماعي اللبناني واقتصاده وأمنه.
ذلك انه امر تدركه الإدارة الأميركية قبل زيارة بومبيو لبيروت وبعدها وقد قامت بواجباتها عبر كل أشكال الدعم الذي تقدمه المؤسسات الأميركية في مختلف المجالات. فهي لم تفصل يوما بين حجم الدعم العسكري والأمني الذي حظي به الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية الأخرى في مواجهة الإرهاب وما تقدمه مؤسساتها الإنمائية والإنسانية وتلك التي تُعنى بشؤون النازحين السوريين والمجتمعات المضيفة في آن.
لكن والحال على ما هي عليه، فإنّ واشنطن لم تتردد يوماً في تأكيد ضرورة توفير البيئة التي تضمن عودة آمنة ومستقرة ومستدامة للنازحين في بلادهم وهو امر لم يتوافر الى الآن قبل ولوج الحل السياسي في سوريا. وان الإدارة الأميركية تدرك ان الحل السياسي في سوريا هو المفتاح لمثل هذه العودة سواء كانت طوعية او آمنة، فهي لم ولن تتوقف يوما عند توصيفات لا تغير في واقع الأمر لا على مستوى النازحين حيث هم ولا في ما يجري في الداخل.
فواشنطن ومعها الإتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي يدركان جيدا ان مثل هذه العودة الشاملة لا يمكن ان تتحقق اليوم. وما يقوم به لبنان على مستوى ترتيب برامج العودة التي تنظمها المديرية العامة للأمن العام وبعض هيئات المجتمع الأهلي والمدني مهم جدا ويشكل الحد الأقصى الذي يمكن القيام به في الوقت الراهن. فلا النظام قبل حتى الآن بعودة النازحين الى المناطق الأصلية لسكنهم لألف سبب وسبب، وخصوصا ان بعضها ما زال مدمراً او أنها باتت من خريطة «سوريا القديمة» وجغرافيتها ـ على ما نُقِل عن قياديين سوريين وحلفائهم - ولا هم قادرون على العودة اليها، خصوصا انها لا تشهد على أي وجه من وجوه الحياة الطبيعية.
ولذلك، يضيف زوار واشنطن، ان كل المواقف التي تحدثت عن جديد يمكن تطبيقه في المبادرة الروسية لم تتوافر ظروفه بعد، وان موسكو تدرك اكثر من غيرها حجم المصاعب التي تواجهها. فهي تدير الأرض والمؤسسات في مناطق عدة من سوريا وتدرك تماماً ان ما تمنّته على النظام في سوريا لم يتحقق بعد. لا على مستوى الغاء القانون الرقم 10 ولا الإعفاء من الخدمة العسكرية لسنتين كما اقترحت موسكو. وهي بالإضافة الى هاتين المعضلتين تواجه معارضة سلبية قوية في مناطق عدة من سوريا وان مواقف المسؤولين الإيرانيين المكلفين الملف السوري ومعهم شركاءها من غير السوريين يساهمون في زياة التصلب الرسمي السوري في وجه موسكو، عدا عن المعضلة الكبرى التي يواجهها محور أستانة ومعه الأمم المتحدة التي فشلت حتى الآن في تشكيل اللجنة التي ستضع الدستور السوري الجديد.
وعليه، يضيف الزوار أنفسهم، انّ واشنطن قالت كلمتها في المبادرة الروسية منذ إطلاقها ولم تعدّلها الى الآن، فهي مبادرة تحتاج أولاً الى اكثر من 6 او 7 مليارات من الدولارات حسب تقدير هيئة التنسيق الروسية التي وضعت خطوطها العريضة وحددت اماكن توزع النازحين في العالم، واشارت الى الحاجة لأكثر من 960 رحلة طيران لإعادة النازحين من 40 دولة غير دول الجوار السوري.
والى هذه المعطيات التي لم تجد مَن يموّلها لا من واشنطن ولا من اوروبا ولا من دول الخليج العربي فكيف إذا كانت المبادرة الروسية تهدف الى «تعويم» النظام السوري واستعادة الإعتراف العربي والدولي المفقود به وفق معادلة لم تعد قابلة للنقاش. فلا الجامعة العربية يمكن ان تعيدها الى أحضانها ولا العالم الذي يطالب بتغيير النظام السوري بكامله يمكن ان يشارك في مثل هذه الورشة. والى أن تتغيّر الظروف ما على اللبنانيين سوى اعتماد ملف النازحين مادة للجدل الداخلي.. ولكن الى متى؟!