منذ اليوم الأول لتشكيل الحكومة، كان إيلاء الإهتمام الأساسي مرتكزاً على إنجاز خطّة الكهرباء. توافق رئيس الحكومة سعد الحريري مع رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، على ضرورة إنجاز خطّة الكهرباء، التي ستعتبر ضربة الحكومة الفاعلة، والبرهان الأول أنها حكومة "إلى العمل".
يشكّل ملف الكهرباء المدخل الفعلي للإصلاح، وفق ما يعتقد المسؤولون السياسيون الطامحون بالحصول على مساعدات مؤتمر سيدر. وهو أحد الملفات الأساسية التي يضع المجتمع الدولي، وتحديداً البنك الدولي، إنجازها كشرط حتمي من أجل الحصول على المساعدات المالية. وهذه تبدأ بتخفيف الهدر، وإنجاز خطة شاملة وشفافة في هذا القطاع، إلى جانب إجراءات إصلاحية في القطاعات المالية الأخرى، والتي تتجلّى في تخفيض نسبة العجز في الموازنة.
حلف الحريري باسيل
يعتبر الحريري وباسيل أن إنجاز خطة الكهرباء، هو أساس إنطلاق الحكومة، والتأكيد بأن التسوية الرئاسية والحكومية، ستأتي بالإيجابيات لصالح اللبنانيين، عبر إقرار خطّة توفّر الكهرباء بتغذية كاملة. أصرّ التيار الوطني الحرّ على إقرار الخطة المعدة من قبل وزيرة الطاقة ندى البستاني، وكان هذا مبنياً على التوافق مع تيار المستقبل. بينما عارضت قوى أخرى بعض البنود الأساسية في هذه الخطّة، كطريقة إجراء المناقصات، وهل يجب حصرها بالوزيرة أم بدائرة المناقصات. كذلك هناك من عارض مسألة الاعتماد على البواخر بانتظار إنشاء المعامل، كما كان هناك اعتراض على مسألة إستملاك الأراضي في سلعاتا، لإنشاء معمل للكهرباء هناك، معتبرين أن المبالغ المرصود لهذه الإستملاكات مرتفعة جداً.
ارتبط ملف الكهرباء بملفات سياسية أخرى، بل وحتى بُنيت تحالفات سياسية عابرة، بناء على هذه الخطّة. ففرز التيار الوطني الحرّ الأفرقاء بين من يؤيد الخطة، فيكون في عداد الحليف والعنصر الجيد، وبين من يعارضها ويوضع في خانة الخصم، الذي يعرقل الإنجازات. الأهم أن الاجتماعات التي عقدتها اللجنة الوزارية، المتخصصة في بحث ملف الكهرباء، هو حضور ممثلين عن البنك الدولي. وتزامن ذلك مع وضع شروط واضحة من قبل البنك الدولي، حول إنجاز خطة الكهرباء، لتجنّب انهيارات في مجالات مختلفة، قد تودي إلى عدم حصول لبنان على المساعدات المرصودة له.
الاتفاق على الاتفاق
الضغوط الدولية دفعت الرئيس سعد الحريري إلى عدم السماح بحصول أي إشكال في ملف الكهرباء، ولو اقتضى الأمر تمرير بعض الأمور أو التغاضي عنها، فاتُخذ قرار من قبل الجميع أن لا بد من توافق على إنجاز الخطة وإقرارها. وقبل الاجتماعات كان كل من حزب الله، حركة أمل، القوات اللبنانية، والحزب التقدمي الإشتراكي، يعارضون بعض بنود الخطة، خصوصاً بند استمرار الاعتماد على البواخر، وبند آلية إجراء المناقصات. وهذا ما أدى إلى بعض التوتر في الجلسات، بين وزير القوات ووزيرة الطاقة.
وبما أن هناك اتفاق على وجوب الاتفاق على إقرار الخطة، عملت القوات اللبنانية مدعومة من الوزير محمد فنيش على تثبيت شرط إجراء المناقصات من قبل دائرة المناقصات، وليس من قبل وزارة الطاقة. وحسب كل المعلومات، فقد جرى الاتفاق على الخطّة مع حصول بعد التعديلات. وتشير المعلومات إلى أن موافقة القوات على السير بالخطة، تأتي بعد نيلها للمطالب التي تقدّمت بها، والشروط التي وضعتها، وأساسها أن لا عودة إلى البواخر، مقابل إنشاء معامل مؤقتة في المناطق، إلى حين الانتهاء من تشييد المعامل الأساسية والكبرى. وكذلك كسبت نقطة أخرى تتعلق بالإستملاكات، وتخفيض المبلغ المرصود لها، بالإضافة إلى إجراء المناقصات في دائرة المناقصات. قد تضمن القوات اللبنانية مبدأ عدم العودة إلى البواخر، وتخفيض أرقام الإستملاكات، لكن لا أحد يضمن عدم العودة إلى البواخر، عملياً أو كأمر واقع، على الرغم من القرارات النظرية.
عض الأصابع
لا شك أن الملف يرتبط بضغوط سياسية أخرى مارسها التيار الوطني الحرّ، على القوى السياسية الأخرى، التي عرفت أن هناك توافقاً شبه كامل بين الحريري والتيار على إنجاز الخطّة. فبدأت عملية الضغوط المتبادلة وعض الأصابع، من أجل تحسين كل طرف لشروطه، سواء فيما يتعلّق ببعض الملفات الخاصة بالكهرباء، وما يرتبط بها من حصص أو تقاطع مصالح أو حتى توظيفات فيما بعد، أو مقايضات تتعلق بملفات أخرى. فمثلاً، وفي أعقاب معارضة الاشتراكي للخطة، بدأ الضغط عليه من بوابة تعيين نواب حاكم مصرف لبنان. وفيما يطالب الاشتراكي باستبدال نائب الحاكم الدرزي، بشخص اقترح اسمه وليد جنبلاط، تم عدم إدراج البند على جدول أعمال الحكومة. بل هناك من لمّح بأن النائب طلال ارسلان يقترح اسماً لتعيينه من حصته، وأنه اتفق على ذلك مع رئيس الجمهورية. هذه النقطة، يمكن إدراجها في مسار الضغط على الاشتراكي للسير بخطة الكهرباء، مقابل أن يعاد العمل بالاتفاق بين جنبلاط ورئيس الجمهورية حول التعيينات.
ضرب سلسلة الرتب والرواتب
إلى جانب الإصرار على الاتفاق حول خطة الكهرباء، وإنجازها سريعاً، بعد سنوات على التأخير، تبقى الأسئلة مطروحة حول آلية التنفيذ والالتزام بها. بل وهناك من يخشى من إمكانية تمرير التعديلات التي ترضي بعض الأفرقاء المحليين والقوى الدولية، للحصول على المساعدات وبعدها يتم الاطاحة بكل شيء.
وهذا لا ينفصل عن الإجراءات المالية الأخرى، والمساعي التي تبذلها القوى المختلفة لتخفيض نسبة الإنفاق والهدر، لا سيما لجهة الإجراءات المطروحة، وتطال تخفيض الموازنات والمصروفات في مختلف الدوائر، إلى جانب الإعلان عن تخفيض رواتب النواب والوزراء والسلطات العليا، وستطال بشكل أو بآخر شرائح مجتمعية واسعة، سواء بتخفيض الرواتب أو عبر أشكال أخرى، كفرض ضرائب أو زيادة التعريفات والرسوم. وهناك من سيحاول إقناع الشرائح المتضررة من هذه الإجراءات، بأن اتخاذها الآن أفضل من حدوث أزمة رواتب كاملة لاحقاً. المطروح الآن هو "خسارة نسبية"، كي لا تقع خسارة كل شيء في الأشهر المقبلة. وهذه السياسة ستكون عبارة عن تبرير لتخفيض كلفة "سلسلة الرتب والرواتب" بشكل غير مباشر، ومن دون المس بها قانوناً. وكل ما يجري الآن هو عبارة عن توافق بين مختلف القوى والمكونات، تحسباً من الانهيار التام.