الموقف الذي اتخذته القمة العربية في تونس من قرار الرئيس الأميركي في شأن الجولان السوري المحتل يُعتبر موقفاً قوياً بمقاييس السياسة والديبلوماسية والقانون الدولي، لأن الصراع العربي - الإسرائيلي يُخاض سياسياً منذ تخلّى العرب عن خيار الحرب لمصلحة "خيار استراتيجي" هو السلام التفاوضي، وقد تبنّى المجتمع الدولي أيضاً هذا الخيار ليصبح مرجعية التعامل مع قضايا الشرق الاوسط. كانت الولايات المتحدة هي الدولة الراعية لهذا المسار و"الوسيط" المعتمد والمقبول من جانب روسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن الأطراف المعنية مباشرةً، لكن الانحياز الأميركي لإسرائيل في فترة الحروب استمرّ مع بدء التفاوض بل ازداد، ومنذ منتصف تسعينات القرن الماضي صار مؤكّداً أن "الوسيط" يفتقد النزاهة بتماهيه تماماً مع الشروط الإسرائيلية، ولم يعد لديه من مقوّمات النزاهة سوى احجامه عن المسّ بالملفات التي تشكّل مقومات أي سلام حقيقي (القدس، صيغة الدولتين، قضية اللاجئين، والانسحاب الإسرائيلي من الجولان...)، وهي القضايا التي تجنّد دونالد ترامب لحسمها خارج التفاوض والقانون الدولي، استجابة للوبي اليهودي في الكونغرس ولقاء مصالح انتخابية داخلية.
السعي إلى ابتلاع هضبة الجولان بذريعة أمن اسرائيل، بعد الاعتداء على الوضع القانوني لمدينة القدس، والاستعداد لطرح "صفقة القرن" كتسوية للصراع العربي - الإسرائيلي، كلّها خطوات أظهرت إدارة ترامب كجهاز مبرمج ليكودياً - ايديولوجياً لتطبيق الصيغة التي يمكن إسرائيل قبولها لأي "سلام" مع العرب. ومع أن دول الطوق العربية لم تعد تشكّل أي تهديد لإسرائيل إلا أن التلاعب الأميركي - الإسرائيلي بمقوّمات السلام بدا دائماً أكثر تناغماً مع كل مَن يعيد النظر في التوجّه السلمي، وبالأخص إيران والفصائل التي تدعمها أو تخترعها، وبالتالي أكثر تهميشاً لكل مَن يريد الاحتكام للتفاوض وبالأخص السلطة الفلسطينية. فبعد 27 عاماً على افتتاح مسار التفاوض، برعاية أميركية، وحتى قبل ذلك، لم يعد هناك شك في أن الثنائي الأميركي - الإسرائيلي يخشى "قوى السلام" العربية ويفضل "قوى المقاومة" والميليشيات الإيرانية التي تشكّل وسيلته لإدامة حال الحرب الدائمة والمفتوحة، وأداته لابتزاز الأنظمة والحكومات العربية التي شاركت في كفالة السلام كـ "خيار استراتيجي".
لم يكن جديداً، لكن كان لافتاً تأكيد جميع القادة العرب في قمة تونس أن قضية فلسطين لا تزال قضيتهم المركزية، فهي كانت سبباً لإنشاء الجامعة العربية وظلّت طوال سبعة عقود العنصر الوحيد لتضامنهم. وإذ أدّى تطوّران خطران، هما أزمات وحروب داخلية في عدد من الدول العربية وتدخل إيراني تخريبي في هذه الدول، إلى تراجع الاهتمام بقضية فلسطين في الأعوام الأخيرة، وإلى انتهاز إسرائيل فرصة وجود ترامب في البيت الأبيض لإنجاز تغييرات تنهي الصراع مع العرب على قاعدتَي موازين القوى العسكرية والأمر الواقع الاحتلالي، وليس على أساس التفاوض. وفي الوقت الذي اعتبرت غالبية المجتمع الدولي أن سيطرة المتطرّفين على حكومة إسرائيل هو المعوّق الرئيس للسلام، اعتنقت إدارة ترامب خلاصتين إسرائيليتين، أولاهما تقول: أن انقسام الفلسطينيين لا يتيح إقامة سلام معهم لكنه يتيح انتزاع المزيد من أرضهم وحقوقهم، والثانية: أن حال الدمار والإنهاك التي بلغها الاقتصاد والنظام لا يؤهلان سورية لأي سلام، وبالتالي فالفرصة متاحة لـ "شرعنة" احتلال الجولان. واستطراداً يمكن هاتين "الهديّتين" الترامبيتَين أن تمثّلا حافزاً لإسرائيل كي تتولّى دوراً متقدماً في مواجهة الخطر الإيراني.
في الظاهر تبدو ثمة واقعية في هذه المعادلة فرضتها المتغيّرات الجيو - سياسية، لكنها تفضي إلى مترتبات سلبية سترتدّ مستقبلاً على العرب. فهي تكافئ إسرائيل مسبقاً على مهمّة مشكوكٍ جداً في مآلاتها، فلا تعفيها فقط من صفة "العدو" بل يتبيّن أن ترامب استخدمها - خلافاً لإرادة العرب - للتحكّم بمصير الشعب الفلسطيني وحقوقه وكذلك للتصرّف بأرض سورية وحدودها. وعدا أن هذه المعادلة تضفي نوعاً من "الشرعية" التلقائية على ممارسات إسرائيل وجرائمها، فإنها في الوقت نفسه تشوّش على الموقف العربي، إذ تمنح الخط الإيراني مشروعية شعبية طالما أن طهران تقدّم نفسها كـ "قيادة" لمقاومة أميركا وإسرائيل. فعلى عكس الاتجاه الراهن، الذي تستدرج فيه واشنطن تنازلات على العرب، كان في الإمكان التخلّي عن الخداع لتطبيق مبادرة السلام العربية وإقامة سلام حقيقي، وبالتالي انتزاع ورقة مهمّة من يد إيران.
من بين الكثير الذي قيل في قمة تونس، سجّل تأكيد الملك سلمان بن عبدالعزيز أن القضية الفلسطينية ستظلّ على رأس اهتمامات المملكة العربية السعودية "حتى يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة"، وتأكيد الرئيس المصري أن المنطقة لن تنعم بالسلام إلا "باستعادة الأراضي العربية المحتلة" مع إشارته إلى أن العرب "قدّموا مبادرة شاملة تمدّ اليد بالسلام العادل" وينبغي عدم الالتفاف عليها. أما الرئيس التونسي الذي اقترح للقمة اسم "قمة العزم والتضامن" فكان لافتاً بقوله ان "التحديات أكبر من أن نتصدّى فرادى" و"من غير المقبول أن تُدار قضايانا العربية خارج أطر العمل العربي المشترك واستمرار ساحاتنا كمنطقة صراع دولي". بل إن الأمين العام للأمم المتحدة دعا إلى "وحدة العالم العربي كشرط أساسي للسلم والاستقرار في المنطقة"، وبديهي أنه يعني وحدة المواقف والسياسات لأنه يلمس من موقعه كيف أن تناقض السياسات العربية يعرقل أحياناً كثيرة حل أزمات صعبة كسورية واليمن وليبيا، ويحول دون مواجهة التنمّر الخارجي حيال العرب سواء كانت الولايات المتحدة مصدره أم إسرائيل وإيران.
الأمم المتحدة شريكة العرب في تلقي الضربات والتحديات الأميركية، وهي رفضت بثبات الاعترافَين الترامبيَين بالقدس عاصمة لإسرائيل ثم بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وستجد نفسها قريباً في مواجهة ترتيبات "صفقة القرن". وإذ يستظل العرب بالأمم المتحدة وما تمثّله من شرعية دولية فإنهم يتطلعون إلى أن تعينهم هذه المظلة على صدّ "الإرادة الأميركية" التي تتجاهل الشرعية الدولية وقوانينها، ويمكنها أن تتغلّب عليها بالأمر الواقع والضغوط والعقوبات، وأيضاً بتفرقة الصف وتشتيت التضامن في حال العرب. وكما أن الأمم المتحدة لا تستطيع تطبيق قوانينها إلا بتوافق دولها الكبرى، كذلك لا يستطيع العرب أن يراهنوا على مواجهة بين الشرعية الدولية والإرادة الأميركية. ما يستطيعونه هو تفعيل تضامنهم مهما كانت الضغوط، ومعروفٌ أن هذا التضامن موضع شك وتساؤل منذ وقع العرب في الافخاخ التي دخلوها مرغمين، سواء بتفاعلات داخلية أم خارجية، فحتى لو كانت قرارات قمة تونس صحيحة سياسياً ومساعدة للمجتمع الدولي إلا أن الإحجام العربي عن أي فعل أو مبادرة ليس خياراً. وليس صحيحاً أن الخيار الوحيد الممكن هو التكيّف مع الاملاءات الأميركية - الإسرائيلية إما عن اقتناع أو على مضض.