قبل ان تخطو حكومة «الى العمل» أية خطوات تُشتمّ منها رائحة الجدية، برزت في وجهها قضيتان خلافيتان هما ملف الكهرباء وقضية النازحين السوريين. وصار السؤال يتردد بين الأوساط السياسية: هل يطيح هذا الخلاف بالحكومة، أم ان الظروف المحلية والمحيطة بالغة الصعوبة والتسوية التي أدت إلى إنتاجها بعد تسعة أشهر من المماحكات وشد الحبال، ما زالت قادرة على ضبط الايقاع الحكومي بتجاوز كل الخلافات المستحكمة؟
سؤال فرض نفسه على الأوساط السياسية بعد فشل اللجنة الوزارية في الوصول إلى تفاهم حول الخطة الواجب اعتمادها لحل أزمة الكهرباء العالقة منذ أكثر من عشر سنوات وكلفت الخزينة أكثر من عشرين مليار دولار أميركي، أي ما يساوي ربع الدين العام، وترافق ذلك مع تصاعد المواجهة بين ركنين أساسيين في الحكومة هما «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، وكان هذا السؤال مطروح أصلاً اثر تفاقم الخلاف بين تيّار «المستقبل» و«القوات» والحزب التقدمي الاشتراكي وبين التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة «امل» وكل ما يسمى بفريق الممانعة، والذي ازداد تفاقماً بعد الزيارة الملتبسة لرئيس الجمهورية العماد عون إلى موسكو من دون أي تنسيق مع رئيس الحكومة سعد الحريري الذي كان المبادر إلى الاتصال بالمسؤولين الروس في هذا الشأن، وتشكيل لجنة لبنانية خاصة لمتابعة هذا الملف مع المسؤولين الروس. وما اعقب هذه الزيارة من مواقف أطلقها وزير الخارجية جبران باسيل اتهم فيها فريقاً من اللبنانيين بأنهم يتعمّد عرقلة عودة النازحين السوريين إلى بلادهم لإحداث انقلاب في التوازنات الديمغرافية الداخلية.
وقد تفاقم هذا الخلاف في اليومين الماضيين بعد اجتماع لجنة الشؤون الخارجية في المجلس النيابي والنقاشات التي دارت حول هذا الموضوع، ووصل إلى نقطة اللاعودة، لا سيما بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» التي شنت عبر النائب جورج عقيص حملة مركزة على وزير الخارجية متهمة اياه بأنه يحاول ان يُبرّر فشله في ملف الكهرباء والنزوح بالتصويب على مواقف «القوات اللبنانية». وفي حين اكتفى عقيص بهذا القدر، ذهب زميله النائب بيار بو عاصي أبعد من ذلك، بحيث اتهم الوزير باسيل، بما يُمثل، بأنه يحاول من خلال أزمة النزوح ان يلعب دور البطل عندما يتهم غيره بأنه يُعرّض المصلحة اللبنانية للخطر.
الأوساط السياسية التي تراقب عن كثب حركة التباينات داخل الحكومة، والتي اعتبرتها في الأساس بأنها تشكّل خطراً على الحكومة، رأت في هذا السجال المستمر وتبادل الاتهامات بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» مؤشراً خطيراً على الانقسام الحاصل داخل الصف المسيحي الأمر الذي حمل مجلس البطاركة الموارنة على محاولة تصويب البوصلة، بما يتعلق بمعالجة أزمة النازحين بقوله، في بيان أصدره اثر اجتماعه أمس «أن مصلحة لبنان العليا هي في حُسن معالجة أزمة النازحين السوريين بما يستند إلى احترام الدستور اللبناني»، وأملوا «بتكوّن إجماع سياسي داخلي ودولي حول وجوب الحفاظ على كرامة النازحين الإنسانية، ومن عناصرها الأساسية حقهم في العودة إلى أرضهم ووطنهم، من دون ربط ذلك بالحل السياسي في سوريا».
طبعاً، تضيف الأوساط السياسية المتابعة، ان الخلاف داخل الصف المسيحي حول أزمة النازحين وضمناً حول أزمة سوء إدارة الحكم وفق توصيف «القوات اللبنانية»، أو الخلاف حول طريقة معالجة أزمة النازحين، ليسا وحدهما ما يهدد بانفراط العقد الحكومي، فبالاضافة إلى الخلاف القائم حول معالجة ملف الكهرباء هناك أمور أخرى كثيرة تشكّل بدورها سبباً اضافياً لهذا الانفراط من بينها ملف الفساد والإصلاح المالي بما يتماشى مع مطالب المجتمع الدولي، حيث ما زالت الحكومة، رغم الالحاح الدولي عليها، تتجنب فتح ملفاته، والسبب يكمن في استمرار التباين بين القوى الأساسية على طريقة التصدّي لها، والذي تجلى في الخطوات التي اقدم عليها حزب الله في ملف الفساد وأثارت ردود فعل عنيفة من تيّار «المستقبل» بما يمثله داخل الطائفة السنيَّة، واعتبره خطوة استنسابية تستهدف الحريرية السياسية بما تمثل على الساحة اللبنانية بقصد تشويه صورتها وتحميلها مسؤولية العجز الكبير الذي تتخبط به خزينة الدولة جرّاء تفاقم الدين العام حتى لامس في العام الحالي المئة مليون دولار، وليس الخلاف الذي لا يزال مستحكماً حول موضوع الكهرباء سوى إحدى تجليات هذا الاستهداف، وإن كان تيّار «المستقبل» ما زال يسعى، عبر رئيسه، إلى معالجة هذا الموضوع من خلال رؤية مشتركة بين مكونات الحكومة.
وبناء على هذه الصورة الضبابية وعلى هذه التناقضات داخل حكومة «إلى العمل»، تسأل الأوساط السياسية ليس فقط عن السبيل إلى الإصلاح والانتاج المطلوب من هذه الحكومة داخلياً ودولياً، بل وأيضاً عن قدرة هذه الحكومة على الاستمرار في إدارة دفة الحكم، وسط كل هذه التناقضات، الأمر الذي يدفعها إلى إبداء الخشية من ان يُعيد التاريخ نفسه ويحصل لحكومة الرئيس الحريري الثالثة ما حصل لحكومته الأولى بصرف النظر عن اختلاف الظروف والمواقع بين الأمس واليوم.