لقد كان الذي تعارفت عليه الأمم هو أن الفائز دائما في الانتخابات والاستفتاءات العامة هو الحاكم الذي تخاف الجماهير من ظلمه وتطمع بعطاياه.
وقياسا على هذه القاعدة المتوارثة يكون ما حدث في أنقرة وإسطنبول وإزمير وأنطاليا في الأول من نيسان حدثا صادما مثيرا لا يصدق، وكأنه كذبة أخرى من أكاذيب مثل هذا اليوم، من كل نيسان، ومن كل عام.
فقد ظل الفلاسفة والمؤرخون، من أيام سقراط وأفلاطون، يسخرون من انتهازية الجماهير العريضة، ويقولون لنا، بالقلم العريض، لو أجلستم قردا على كرسي قيادة الدولة أو الحزب أو العشيرة، ومنحتموه البنك المركزي والجيش والشرطة والأمن الوطني والأمن الخاص والمخابرات والصناعة والتجارة والزراعة والري والأوقاف والمحاكم والسجون والثقافة والفنون لفاز بالرضا والقبول، دون عناء، ولأصبح الذي يفكر، مجرد تفكير، بمنافسته ومنازعته على الزعامة فدائيا ومنتحرا، بلا نقاش ولا جدال.
فلم يكن الوضع الذي كانت عليه تركيا قبل انتخاباتها البلدية الأخيرة بعيدا عما حذر منه الفلاسفة والمؤرخون.
فالخليفة العثماني رجب طيب أردوغان بما عُرف عنه من جبروت وعنجهية وقسوة على معارضيه، ليس الذين هم من خارج حزبه، حزب العدالة والتنمية، فقط، بل من داخله، ومن أعلى مراكز قيادته، جعَلَنا، نحن الكتاب والصحافيين المتوهمين بانتهازية الجماهير العريضة، لا نتوقع، ولو بنسبة واحد من مليون، أن يستطيع أحد من المعارضين الأتراك أن يهز رِجلا واحدة من أرجل كرسيّ الإمبراطور، وأن ينتصر عليه في عقر داره في أنقرة وإسطنبول وإزمير وأنطاليا والعشرات من المدن والقرى الأخرى التي لا تعد ولا تحصى.
لذلك فإن الذي حدث في الأول من نيسان حدثٌ جللٌ قلَبَ الموازين، وكذّبَ الفلاسفة والمؤرخين، وأثبت أن الجماهير العريضة ليست انتهازية، دائما، خصوصا حين لا تكون غبية وجاهلة وجائعة وجبانة، وحين يكون أساس ثقافتها علمانيا إنسانيا تقدميا حداثيا، كما هي حالها في دولة القائد المؤسس مصطفى كمال أتاتورك الذي أمر بنزع العمامة واعتمار الهواء الطلق، من عشرات السنين.
ولولا أن المجالس بالأمانات لكشفتُ عن اسم المسؤول السابق في حزب الرئيس أردوغان وفي قصر الرئاسة الذي كان قد تنبأ بالزلزال الذي هز تركيا في أول نيسان، وأكد حدوثه مسببا ذلك بسلوك أردوغان الجنوني الانتهازي الدكتاتوري المتلون المتقلب الذي استخدَم الحزب والدولة أدوات فقط، لإرضاء الإمبراطوري الخيالي الذي لا يتحقق.
وقال إنها انتكاسة كبيرة ليس للحزب فقط، وليس للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شخصيا، وحده، بل لمجمل التيار الإسلامي السياسي التركي، وغير التركي أيضا. لأنها سوف تجر خلفها تداعيات خطيرة سوف تغير وجه تركيا والمنطقة، دون ريب.
وما يمكن إدراكه بسهولة ودون عناء، خصوصا بعد أن ننزع النظارات السود التي يضعها الإسلاميون الترك والعرب والإيرانيون (عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ)، هو أن تركيا تتعافى، وأن مستقبلها لن يكون فيه مكان للمتاجرين بالدين الذين أغرقوا أنفسهم ومجتمعاتهم في بحار الظلمات والخرافات والأساطير، وأن أجيال الحرية والحداثة والإنترنت والسفن التي تتجول في السموات السبع بين الكواكب وأقمارها وشموسها، لن تمنح ثقتها وتسلم قيادتها لمخرفين لا يقرأون التاريخ جيدا، ولا يرون العصر على حقيقته التي لا يمكن إخفاؤها بغربال.
وأكبر الظن، بل أكبر الأمل، أن يدخل أردوغان، هو وحزبه، في النفق الذي دخله محمد مرسي والإخوان المسلمون المصريون، وقبلهم أسامة بن لادن وأبومصعب الزرقاوي والخليفة البغدادي المختفي في إحدى قرى سوريا أو العراق، لتخرج عشرات آلاف الأبرياء من أقبية سجون الحزب وأردوغان، ولتدخلها عشرات الآلاف أيضا من الجلادين والمزورين والمختلسين ومرتكبي جرائم القتل بالكواتم والمفخخات. نعم نستطيع من اليوم أن نحلم بذلك اليوم المبارك الجميل.