بين اللبنانيات زوجات عناصر “داعش” الموجودات في المخيمات التي خصصتها “قوات سوريا الديموقراطية” لهن في شمال سوريا، فتاة تدعى آمنة ن. س، وهي من مواليد عام 2003، وفي الجدول الذي زودت به هذه القوات “درج” أشير إلى آمنة بصفتها متزوجة، واسم زوجها قاسم م. م، وهو لبناني أيضاً. آمنة اليوم في الـ١٦، و”قسد” أوقفتها عام 2018 في منطقة هجين، وفي خانة عدد الأطفال في الجدول نفسه، كُتِبت عبارة “لا يوجد”. هذه المعطيات الأولية تقول إننا أمام قصة طفلة تم تزويجها. وغير ذلك، يصعب توقعه. كيف وصلت طفلة في هذا العمر إلى دولة الخلافة، ومن تزوجها، ثم كيف غادرت الدولة قبل سقوطها، كل هذا سيكون جزءاً من حكايات بدأت تتسرب وقائعها بعد هدم “دولة الخلافة”.
في الجدول عينه اسم لبنانية أخرى. إنها آمال م. س، وهي متزوجة من محمد ب. ي، وهو لبناني أيضاً. وآمال من مواليد عام 1999، وخرجت مع النسوة أخيراً، من مخيم الباغوز مع ابنتيها، عائشة وماريا. عمر آمال اليوم ١٩ سنة، ولديها ابنتان. الأرجح أن آمال تزوجت وهي في الـ15 من عمرها، ونحن هنا أيضاً أمام زوجة طفلة. لا معلومات في الجدول عن مصير الزوج. وعلينا أيضاً أن نضم قصة آمال وطفلتيها إلى قصص ما بعد هدم الخلافة.
ومثلما ولد “داعش” في غفلة عن أهله في كل العالم، نحن اليوم أمام تراجيديا دحره، وغافلون عن حجم مأساة ما بعد دحره. الموت الموقت للتنظيم طرح علينا نحن أهله تحدياً جديداً. ثمة عائلات تشكلت في ظل الخلافة. نحن نتحدث عن آلاف الأطفال الذين ولدوا خارج الحدود القانونية والجغرافية لبلدان أهلهم. نور عادت إلى لبنان مع ابنيها اللبنانيين وابنها الثالث التونسي. وآمال أنجبت في الرقة وأولادها غير مسجلين في لبنان وكذلك زواجها الثاني من مغربي، بعدما قتل زوجها الأول!
إنها قصة الولادات من زيجات عابرة للجنسيات وغير موثقة بعقود زواج ولا بهويات ثابتة للأزواج.نجم عن هذه الظاهرة اليوم آلاف الأطفال جنسياتهم ووثائقهم عصية على القوانين الراهنة
في المخيمات التي خصصها “قسد” للنساء غير السوريات وغير العراقيات في شمال سوريا، 12 ألف امرأة وطفل من 46 جنسية! هذا العدد من المفترض أن يتضاعف في سوريا، ذاك أن آلافاً من هؤلاء ما زالوا خارج المخيمات. فـ”درج” أحصى مثلاً 10 حالات التحاق للبنانيات مع أزواجهن أو من دون أزواج بـ”داعش”، ولم يعثر في سجلات مخيمات “قسد” سوى على 3 منهن. والقول إن النساء السبع الأخريات قتلن غير دقيق، ذاك أن واحدة منهن على الأقل ما زالت تتواصل هاتفياً مع أهلها في لبنان، واسمها غير مدرج في لوائح “قسد”. وأرجع مسؤول في الوحدات ذلك إلى أن كثيرات لا يعترفن بجنسياتهن، وأخريات ما زلن ضائعات بين المخيمات والمناطق بعد سقوط الباغوز.
هؤلاء النسوة الضائعات في “دولة الخلافة” المهدومة يحملن معهن حكايات تفوق حكايات أزواجهن بما تنطوي عليه من دلالات. معظمهن زُوجن في سنٍ مبكرة، من فتيان في عمر صغير أيضاً. وغالبيتهن تزوجن مرة ثانية بعد موت الزوج في القتال. ولدى كثيرات منهن أولاد من أزواج جاءوا من بلاد بعيدة. فقيرات تزوجن على نحو غريب وسريع، وغادرن بعلم الأهل أو من دون علمهم، إلى تركيا ومنها إلى سوريا. ويمكن أن يقول المرء إن حكاية التنظيم تتكثف في حكايات نساء عناصره، أكثر مما يمكن العثور عليها في حكايات العناصر أنفسهم. فالمتسللات من بلدانهن إلى سوريا حملن معهن قصة بيئاتهن التي زوجتهن وأرسلتهن صغيرات إلى الرقة وإلى دير الزور، وهن إذ مات الزوج، وهو مجرد زوج ومجرد عنصر أو أمير في “داعش”، حُوِّلن إلى تجربة ديوان النسوة وتحولن إلى “معروضات سعيدات” في سوق الزواج من غرباء.
العراق أيضاً يشهد الظاهرة ذاتها، وثمة مخيمات هائلة تضم آلاف النسوة والأطفال غير العراقيين ينتظرون حسم مصائرهم. إذاً نحن أمام اختلالٍ هائل يحاول العالم كله، ممن يحمل هؤلاء النسوة والأطفال جنسيات دول منه، الهرب من مواجهته. ليست بريطانيا وحدها من أسقط عن شميمة جنسيتها، ما أن حانت ساعة مواجهة النفس. الأردن يسعى إلى تأجيل مشكلته مع جهادييه، ذاك أن مصدراً رسمياً في عمان قال لزميلتنا رنا صباغ الأسبوع الفائت: “من المناسب أن تسلّم قسد المقاتلين المعتقلين الذين ناهز عددهم 3000 من 50 جنسية بمن فيهم أردنيون لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، إلى العراق، ليحاكموا هناك”. وفي لبنان يتكتم الأهالي وتتكتم السلطات عن حجم الظاهرة، والجميع يشيح بنظره عن أبنائه المهزومين في “دولة الخلافة”، وبينما لا ترغب الأجهزة الأمنية باستعادة هؤلاء، يحار الأهل ببناتهم وأحفادهم الذين لا يعرفون وجوه آبائهم.
لكن الحكومات المقصرة حكماً في التعاطي مع هذا الملف، هي أيضاً أمام معضلات لم يسبق أن واجهتها. إنها قصة الولادات من زيجات عابرة للجنسيات وغير موثقة بعقود زواج ولا بهويات ثابتة للأزواج. وهذه في حال “داعش” غير نادرة، ذاك أن موت الزوج، وهو ما أصاب آلاف العائلات، كان يحيل الزوجة إلى ديوان النساء حيث “تعرض” هناك للزواج من أي راغب بالزواج من عناصر التنظيم.
نجم عن هذه الظاهرة اليوم آلاف الأطفال، وتبقى جنسيات هؤلاء ووثائقهم الأخرى عصية على القوانين الراهنة، ويمكن الحكومات التذرع بها لتأجيل التعامل مع هذا الملف الهائل. هذا طبعاً قبل أن نصل إلى مسألة المقاتلين الأسرى من غير العراقيين والسوريين، والذين يتجاوز عددهم في سجون “قوات سوريا الديموقراطية” الألف مقاتل، بحسب ما قاله لـ”درج” مسؤول العلاقات العامة قي “قسد” ريدور خليل. وهؤلاء يتم التواصل مع حكومات بلادهم، وما زال التجاوب متفاوتاً، علماً أن التعامل مع معضلة هؤلاء يبقى أسهل قانونياً، على رغم الخطورة التي تمثلها على بلادهم عودتهم إليها.
“داعش” مثل ثقباً في النظام الاجتماعي من الصعب رأبه. لدينا في دولته المهزومة اليوم ما لا يحصى من الأوضاع الناجمة عن جرائمه. هذه الأوضاع كُتب على الأكراد مواجهتها طالما أن أصحابها يشيحون النظر عنها ويهربون من مواجهتها. ثمة مثلاً عشرات الأطفال من أمهات أيزيديات اغتصبهن عناصر التنظيم بعد سبيهن. الأطفال من آباء قتلة وأمهات مسبيات. هذا الأمر وضع العشائر الأيزيدية أمام استحقاق استعادة بناتهن مع أبناءٍ من آباء قتلة ومغتصبين. كثيرات من الأيزديات عدن إلى سنجار، لكن كثيرات أيضاً متمسكات بأبنائهن الذين سيعتبرهم القانون العراقي لقطاء وبالتالي سيسجلهم كمسلمين، وهذا ما وضع الأهل الأيزيديين أمام حقيقة أحفاد من غير أهل الملة.
“داعش” ثقب لن يردم قريباً، وهزيمته فاتحة حكايات تكتمت المجتمعات والعائلات عنها طوال سنوات الخلافة. وها هي الدول والحكومات تنضم إلى قافلة المتكتمين.