البيان الرسمي الروسي، الصادر عن لقاء الرئيسين ميشال عون وفلاديمير بوتين، واضح في ملف اللاجئين السوريين، لكنه وضوح "مباغت". يتناقض مضمون البيان مع كل الطروحات اللبنانية، ويعكس اختلافات لبنانية روسية حول كيفية حلّ ملف اللاجئين السوريين. وفيما كان لبنان يراهن على دور روسي ضاغط على سوريا، وعلى المجتمع الدولي أيضاً، لتحقيق عودة سريعة قبل إنجاز الحلّ السياسي أو من دون انتظاره، تؤكد المعطيات الواردة من موسكو، بأن الرؤية الروسية كانت واضحة، وقد تجلّت في البيان، من خلال التشديد على مبدأ تحقيق عودة اللاجئين "بعد إرساء الحلّ السياسي" وتحقيق الأمن، والحفاظ على سلامة اللاجئين العائدين.
"المبادرة الروسية" تبخرت!
حسب ما تكشف مصادر متابعة لمجريات الزيارة، فإن الروس شددوا على مبدأ "العودة الآمنة"، التي لا يمكن ان تتحقق من دون إيجاد حلّ سياسي، وتوافق بين الدول. وهذا يعني أن الروس يعرفون عدم قابلية تحقق المبادرة، التي اقترحوها قبل أكثر من سنة، لتأمين عودة اللاجئين. هذه الخلاصة ترتبط بجملة عوامل، أولها القرار السياسي والتوافق الدولي، ربطاً بتوفير الأموال اللازمة لذلك. ما يعني أن عودة اللاجئين مؤجلة وليس قريبة. وأكثر من ذلك، تكشف المصادر، أن مضمون الكلام ما بين الجانبين اللبناني والروسي، أوحى وكأن النظام السوري هو الذي لا يريد تحقيق هذه العودة.
وفي هذا الإطار تكشف المصادر، أن الجانب اللبناني حاول مطالبة موسكو، وتحديداً الرئيس بوتين شخصياً، بالضغط على النظام السوري ورئيسه بشار الاسد، من أجل استعجال تحقيق إعادة اللاجئين سريعاً، فكان الردّ الروسي بتوجيه نصيحة للرئيس عون وللوزير جبران باسيل، أنْ لا بد من القيام بزيارة رسمية لبنانية إلى سوريا، ولقاء المسؤولين السوريين للبحث في هذه المسألة، ومحاولة إقامة تعاون مع النظام، وإقناعه بإيجاد حلّ سريع لهذه المشكلة. وهذا الكلام، يعني أن كل الحديث عن العودة السريعة، والتعويل على المبادرة الروسية، من دون انتظار الحلّ السياسي، سيكون بلا جدوى في هذه المرحلة.
مقاربة مالية
لا شك إذاً، وما بعد زيارة موسكو، سيغدو كل كلام لبناني حول تحقيق العودة السريعة للاجئين "من دون انتظار الحلّ السياسي" لا هدف له سوى الاستثمار الشعبوي، واستخدامه في سياقات سياسية محلية، وكأداة ضغط على القوى الأخرى.. عدا عن ذلك، أصبح مؤكداً لدى الجميع أن العودة لن تتحقق حالياً.
ومن وجه آخر، سيغدو ملف النازحين غير منفصل عن الأزمة المالية، التي يحذّر الكثير من اللبنانيين من الإقبال عليها. بمعنى أنه ستتم مقاربة ملفّ اللاجئين في سياق مختلف هذه المرّة، وكأمر واقع يجب التعامل معه بحنكة عملية. أي سيكون عنواناً أساسياً للضغط على المجتمع الدولي، بغية الحصول على أموال ومساعدات، لقاء إبقاء اللاجئين في لبنان، لعلّ هذه المساعدات التي ستأتي تسد جزءاً من العجز، وكتعويض عن جانب كبير من الخسارات المالية والاقتصادية، ولعلّها تسهم أيضاً في تثبيت استقرار الليرة. ولا يمكن استبعاد تجدد المطالبة اللبنانية بإنشاء مخيمات للاجئين على الحدود، كما كان مطروحاً في فترة سابقة، بما أن عودة اللاجئين لن تكون سريعة أو قريبة.
مصلحة النظام السوري
في المقابل، للنظام السوري أسباب عديدة، تدفعه إلى عدم قبوله إعادة اللاجئين السوريين. وتكشف معلومات متابعة، أن النظام أبلغ أيضاً بعض المقربين منه، لبنانيين وغير لبنانيين، أن لاعودة للاجئين قبل تثبيت الحلّ السياسي في سوريا. وهذا الحلّ، وفق منظور النظام، يرتكز على ضمان تثبيت نفسه في الحكم، وعدم استخدام اللاجئين من قبل المجتمع الدولي في أي تأثير انتخابي في الانتخابات الرئاسية المقبلة في العام 2021. وهذا يعني ان النظام يريد استخدام اللاجئين السوريين في سياقات مختلفة ومتعددة. أولاً، لتفعيل تأثيره في المجريات السياسية اللبنانية عبر ما يوفره ملف اللاجئين من قدرة ابتزاز. وثانياً، لجعل هذا الملف باباً ليعوّم النظام نفسه دولياً، من خلال ضرورة التفاوض معه والقبول به دولة وحكومة. وثالثاً، يهدف النظام إلى ابتزاز المجتمع الدولي مالياً بموضوع اللاجئين، بمعنى أنه (وتماشياً مع الشروط الدولية نفسها) لا يمكن إعادة اللاجئين، ما لم يتم دفع الأموال للنظام لإعادة الإعمار، وتحسين البنى التحتية، من أجل توفير العودة الملائمة للاجئين. ما يعني فك الحصار الاقتصادي والسياسي الذي يعيشه النظام السوري.
من الناحية الاستراتيجية أيضاً، والتي تفرض على النظام السوري عدم السماح بعودة كاملة للاجئين، هي عملية الفرز الديمغرافي، التي لطالما سعى النظام إلى تحقيقها في الأراضي السورية. أي أنه لا يمكن السماح للاجئين سوريين أن يعودوا إلى مناطق أساسية في ريف حماه، في حمص وريفها، في غوطتي دمشق.. مثالاً لا حصراً، لأن هذه المناطق تعتبر استراتيجية لتثبيت سيطرة النظام على مفاصل الجغرافيا السورية ومفترقاتها. ولا يمكنه السماح لبيئة معارضة، أن تعود إلى تلك المناطق، فتشكّل عائقاً أمام تكريس سيطرته، بما يبدد كل جهوده العسكرية (بالأحرى، حملة التطهير) على امتداد ثمانية أعوام.
"تلازم المسارين"
بعد زيارة موسكو، لا بد من تغيّر في لغة الخطاب اللبناني حيال ملف اللاجئين، وفي آلية التعامل معه. إشارة بوتين لعون وباسيل بوجوب زيارة سوريا، ولقاء المسؤولين السوريين، للتنسيق بملف اللاجئين، لها هدف سياسي أبعد من هذا الملف فقط. فإذا كانت روسيا التي تسيطر على قرار النظام، غير قادرة على إعادة اللاجئين، فلا يمكن للبنان أن يؤثر على النظام في هذا المجال. لكن لبوتين هدف آخر من نصحيته بهذه الزيارة، وهو تعزيز الوضع السياسي للنظام، من خلال إمساكه بـ"تلازم المسارين" اللبناني والسوري، على قاعدة تحسين العلاقات بين البلدين. أحجم عون وباسيل عن زيارة سوريا طوال الأشهر السابقة لأسباب متعددة، منها مراعاة الرئيس سعد الحريري. لكن، بلا شك، المرحلة المقبلة ستشهد تطورات على صعيد علاقتهما مع النظام السوري، وقد تكون الزيارة إلى دمشق واحدة من سماتها البارزة، وإن كانت ستتلفّح بعنوان اللاجئين.