مضى رئيس الجمهورية اللبنانية الجنرال ميشال عون إلى روسيا الاتحادية، وفي ظن اللبنانيين أنه ذهب إلى دولة الغَلَبة الإمبراطورية في سوريا ليستعين بها وبالمبادرة التي أعلنتْها لإعادة النازحين السوريين إلى ديارهم. وكان الطريف والغريب أمرين اثنين: أنه لم يصطحب معه الوزير الذي اختاره في الحكومة اللبنانية العتيدة لشؤون النازحين، بل اصطحب صهره وابنته وحسْب، وأنه ما ذكر في تصريحه العلني الشهير موضوع النازحين أو اللاجئين إلاّ عَرَضاً، وكانت أولوياته: طلب الحماية من روسيا للأقليات المسيحية باعتبار أنّ روسيا أرثوذكسية، والأرثوذكس والمسيحيون الآخرون يتعرضون في سوريا ولبنان للتهديدات الإرهابية، وهم يعتمدون في أمنهم وأمانهم من الإرهاب، ومن إسرائيل على روسيا والرئيس الأسد وإيران والمقاومة اللبنانية. وبعد أنّ طالب الرئيس بوتين والروس بالمساعدة في تحرير الجولان والأرض اللبنانية المحتلة، أعلن عن إرادته إطلاق أو إعلان «المقاومة الاقتصادية» في وجه العقوبات الأميركية على «حزب الله» والتي تضر بالقطاع المصرفي اللبناني. وهو الأمر نفسه الذي كان قد أعلنه عشية زيارة وزير الخارجية الأميركي للبنان.
فخامة الرئيس يعلن هنا عن دخول لبنان في المحور أو التحالف الروسي - الإيراني. وهو الأمر غير المعروف وغير المعهود في التاريخ اللبناني الحديث، ولبنان لا يستطيع ذلك لا برئيس ولا من دون رئيس. ثم إنّ المعروف أنّ روسيا الاتحادية التي نصرت الأسد في سوريا ضد شعبه وليس ضد الإرهاب، هي التي تضمن أمن إسرائيل. والجولان محتل منذ العام 1967، وما سعى نظام الأسدين لتحريره غير عام 1973، وفيما عدا ذلك هناك هدوءٌ تامٌّ عاد الآن إلى الحدود مع إسرائيل في الجولان، ولا جديد في الهدوء الجديد إلاّ وصول الإيرانيين و«حزب الله» والشرطة الروسية إليه إلى جانب المواقع التي عاد الجيش السوري للتمركز فيها بعد الانسحاب منها قبل أربع أو خمس سنوات. ولو فرضنا أنّ نصر الله خطر له - كما أشار عشية يوم الثلاثاء الموافق 26 مارس (آذار) - إطلاق النار نحو إسرائيل من الجولان، فالذي سيتصدى له إلى جانب المحتلين الإسرائيليين الروس أنفسهم. أما الأرض اللبنانية الباقية تحت الاحتلال (مزارع شبعا) فالرئيس يعلم مرة ثانية وثالثة أنها بحسب القانون الدولي أرض سورية، وأنّ نظام الأسدين، يرفض حتى الآن إبلاغ الأمم المتحدة أنها أرضٌ لبنانية.
ولنطلب نحن اللبنانيين السذّج، من رئيسنا أن يذهب إلى صديقه وحليفه الرئيس بشار الأسد، وبوساطة بوتين و«نصر الله» إن شاء، فيحلّ له مشكلتين عويصتين: الاعتراف للبنان بمزارع شبعا، والسماح بعودة اللاجئين إلى سوريا. لقد ذهب في السنتين الماضيتين عشرة وزراء لعند مدير المخابرات السورية (الذي يتهمه القضاء اللبناني بتنظيم عمليات إرهابية بلبنان) من «حزب الله» وحركة أمل والتيار الوطني الحر... الخ، أفلم يسألوه مرة عن شروطه للقبول بعودة النازحين؟! لماذا نضطر إلى توسيط الروس، الذين ما أنتجت مبادرتهم منذ العام 2017 غير أقلّ القليل، ما دام رئيسنا صديقاً للأسد، ووزير خارجيتنا صديقاً لوزير الخارجية السوري، الذي لا يكف عن معانقته كلما حصل له الشرف برؤيته؟! الروس لا يزالون يشتركون لإعادة النازحين تمويل إعمار سوريا من العرب والغربيين.
ولنكف عن المزاح. منذ العام 2007 على الأقلّ يتحدث الجنرال ثم الرئيس ميشال عون عن «تحالف الأقليات» ويعني بذلك المسيحيين والشيعة والعلويين. وقتها ما كان هناك إرهاب، وكانت كثرة من المسيحيين مع «14 آذار» ضد وصول عون للرئاسة. وقد ظننا وقتها باعتبار أنّ «حزب الله» له الغلبة، وأن الجنرال تحالف معه عام 2006 ويريد مجاملة نصر الله، وعندما يتحقق هدفه فستختفي من عمله لاستثمار الطائفية السياسية المخاوف من أهل السنة. وبعد وصول الجنرال للرئاسة بدعم من سعد الحريري أيضاً، ورغم أنني كنتُ من معارضي ذلك، فقد كتبتُ بـ«الشرق الأوسط» أنّ من الفضائل القليلة لوصول الجنرال للرئاسة، إمكان ذهاب فكرة تحالف الأقليات من فكره. ويتبين الآن بل منذ سنتين أن المسألة مسألة وعي وليس وقائع. فعند بعض منظّري المارونية السياسية القُدامى أنّ جبال لبنان ملجأ للأقليات المسيحية. ورغم أنهم نزلوا من جبالهم، وصارت عندهم دولة؛ فإنّ هناك هواجس مستمرة في بعض الرؤوس. وهذا مع أنّ السنة وليس الشيعة، والرئيس رفيق الحريري زعيمهم بالذات قال بالفم الملآن في التسعينات: لقد أوقفنا العدّ، ورئيس لبنان يبقى مارونياً، والمناصفة في كل شيء، ومن دون منة من أحد. وحتى خلال الثورة ثم الحرب السورية، وقد جرت أحداث إرهابية على «حزب الله» لأنه ذهب لقتال السوريين في عُقر دارهم، ما تعرض مسيحي من المسلمين للضرر في أي سياق.
إنّ مسيحيي التيار الوطني الحر، وللمرة الأولى في تاريخ لبنان، وهم أكثرية نسبية بين الموارنة والأرثوذكس، يُظهرون ولاءً شديداً لنصر الله والأسد... والروس. كانوا يعيّرون الرئيس الحلو باتفاق القاهرة، ويتهمون الهراوي ولحود بالخيانة للإقرار بالوجود السوري والإفادة منه. أما الآن فإنهم يفخرون بسيطرة نصر الله وإيران والأسد، ويريد الرئيس تكليفهم بتحرير الأرض في لبنان وسوريا، ولا يرون غضاضة في سيطرتهم على البلاد والعباد! كان صديقي المطران جورج خضر أطال الله عمره يقول لي دائماً: لا نريد أن نكونَ في ذمة أحد، نحن وإياكم في ذمة الله. ولذلك وعندما ذهبنا إلى الأزهر مسيحيين ومسلمين أصررنا على أنّ المواطنة والعيش المشترك، هما قانون الحياة الوطنية، وأنّ فكرة الأقلية فكرة استعمارية، لأنها تعني اعتماد المسيحيين في حياتهم وحرياتهم على القوى الخارجية على الدوام. وبذلك صدرت بيانات، وعلى أساسٍ من ذلك عشنا في لبنان بعد الحرب من دون منغِّصاتٍ لهذه الجهة، إلى أن جددتْها الشعبوية الجديدة، وهذا أمرٌ له علاقة بالوعي، وليس له علاقة بالواقع، وإلاّ فليقل لنا دُعاة تحالف الأقليات أين هو المسلم في لبنان الذي مارس إرهاباً وقتلاً على المسيحيين؟! وأقول مرة أُخرى: لماذا استبدال «ذمية» إن كانت بذمية جديدة سبق لها أن اغتالت مسيحيين لأنهم خالفوها في الرأي السياسي؛ وبالمصادفة فإنّ الذين قُتلوا كانوا من الخصوم السياسيين للجنرال عون أيضاً!
ولنصل إلى «المقاومة الاقتصادية» التي دعا إليها رئيس الجمهورية. الرئيس بري قال لبومبيو إنّ المصارف اللبنانية تطبق قواعد النظام المالي العالمي، ولا داعي للتهديد والوعيد. أما رئيس الجمهورية فاعتبر العقوبات على الحزب مضرة بالقطاع المصرفي. كيف يتصور الرئيس «المقاومة الاقتصادية»؟ أنا أرى أنه منزعج لأنّ الحزب منزعج وهو يريد إرضاءه. وكلام فخامة الرئيس يمكن أن يكون مضراً بالقطاع المصرفي أكثر من العقوبات الأميركية على الحزب!
ولنتأمل في الخاتمة نموذج فنزويلا. الجنرال شافيز وصل إلى السلطة بانتخابات ديمقراطية، لكنه رفض المغادرة واستطاع إنتاج «شعبوية» لشخصيته الكاريزماتية. وعندما أخذ الله أمانته استخلف شعبوياً آخر، وفي عهده الميمون وعهد خليفته خربت البلاد، وذهب فقراؤها بالملايين جائعين إلى الدول المجاورة. نصر الله شعبوي وعقائدي تواليه الجماهير، ويبشر بظهور المهدي. والرئيس عون شعبوي عسكري، تخضع له أعناق العامة والنخب المسيحية. نحن في لبنان بين شافيز ومادورو، وأخشى أنه كما خربت فنزويلا بعد أن كانت أغنى بلدان أميركا اللاتينية أن تتهدد شعبويات لبنان بلادنا بالخراب. ولله الأمر من قبل ومن بعد.