مع انهيار آخر معقلٍ لدولة الخلافة الإسلامية في "الباغوز" السورية، تكون هذه الخلافة التي أعلنها أبو بكر البغدادي في الموصل قبل أكثر من أربع سنوات قد زالت رغم أنف الحناجر التي صدحت طوال السنوات الأخيرة: "دولة الخلافة باقية باقية" تحت شعار علَم لا إله إلا الله محمد رسول الله، المُجلّل بالسواد.
دولة "مُغتصِبة" لسيادة دولتين عربيتين، بعد انتهاك الحدود وإعمال السيف في رقاب المقاومين والمعارضين لها، واعتقال الآلاف وسبي النساء والذراري وانتهاك الحرمات، وابتداع أبشع جرائم التعذيب والقتل الوحشيّة، بما فيها حرق الأحياء وبيع السبايا، واستقدام الأجانب (بما فيهم النساء "المجاهدات") من اقاصي المعمورة لينشروا الضلال والجهل في ربوع هذه الدولة "المارقة" على الدين والشرائع السماوية والأعراف والقيم الإنسانية، وها هي تسقط تحت أقدام الجيش العراقي الأبيّ في العراق، وتحت أقدام قوات سوريا الديمقراطية الكرديّة، وهذا الإنتصار العظيم لم يكن ليتحقّق لولا تضافر جهود التحالف الدولي ضد داعش، وخاصةً الهجمات الجوية التي بلغت عشرات الآلاف من "الطلعات" خلال السنوات الأربع الماضية.
إقرأ أيضًا: الجزائر العظيمة.. الانضباط الشعبي وغياب القمع السلطوي
زالت دولة الخلافة الإسلامية بحمد الله تعالى، قُضي على هيكلها وكيانها، وتشتّت قادتها بعد قتل معظمهم، لكن، ماذا عن العقل والفكر الداعشيّين؟ الفكر القابع في الأدمغة التي تشرّبت به منذ عقود، منذ أيام "الصحوة الإسلامية" مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعد هزيمة الخامس من حزيران عام ١٩٦٧ الماحقة، واحتلال إسرائيل للضفة الغربية الفلسطينية وسيناء المصرية والجولان السوري.
الصحوة الإسلامية التي أخرجت الفكر "الوهابي" من عُمق الجزيرة العربية ونشرتهُ في طول البلاد الإسلامية وعرضها، وغزت بواسطة "دُعاتها" ومنشوراتها وإعلامها و "فضائياتها" التلفزيونية الفضاء الأوروبي والأميركي، فكر "إسلامي مُتحجّر" لم تلفحهُ رياح التغيير والنقد منذ قرون، ممّا أتاح له نشر العنف والتّعصُّب ضد الغير، والغير هذا هو "العدوّ" المُتربّص "بنا"، وهو يبدأ بالامبريالية والاستعمار والرأسمالية، ليصل (وهذا الأهمّ) إلى العدو الحقيقي الداخلي الذي يمتلك وجوهاً متباينة: قومية وثقافية واجتماعية ودينية وطائفية، وفي النهاية إنّه عدوٌ واحد لا خلاص إلاّ بقتله والقضاء عليه.
إنّ أخشى ما نخشاه أن يكون هذا الفكر الوحشي المُختمر منذ عقودٍ ما زال قادراً على بعث الجهل والظلام والعنف وكلّ سلفيةٍ مقيتة، ليخرج من جديد بين ظهرانينا ويُعاود التجارب الرهيبة التي كان قد سلّفهُ إياها الداعشيُ المقيت الذي لفظ أنفاسه قبل أيامٍ في الباغوز السورية.