عبرت عاصفة المواقف التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، حيال إيران وحزب الله. لم ينجح بومبيو في إعادة اللبنانيين إلى انقسام عمودي، كالذي ساد ما بين عامي 2005 و2009. تسريبات كثيرة رافقت الزيارة، وادعاءات عديدة طبعت بها، بينما الاستنتاجات والتوقعات تفوق الوقائع.
وحده حزب الله، الذي بقي على صمته خلال فترة الزيارة، خرج منها أكثر المنتصرين والمستفيدين على أكثر من صعيد. خصوصاً، أن الوزير الأميركي اختار مقارعة الحزب في عقر داره، وليس للحزب ما يكسبه في هذه الظروف، أكثر من استمرار الهجوم الأميركي عليه، مالياً أو سياسياً.
حتى "القوات اللبنانية"!
صحيح أن حزب الله يتضرر أو يتأثر بفعل العقوبات المالية الأميركية، عليه وعلى إيران. لكن المردود السياسي لتلك الهجمات والسياسات يبقى أربح بالنسبة إلى الحزب، الذي ينظر بارتياح لنتائج الزيارة، وللموقف اللبناني الرسمي، الذي جاء متشابهاً على لسان مختلف المسؤولين اللبنانيين، حلفاء او خصوماً. التناغم في المواقف ما بين الرئاسات الثلاث، ربطاً بمواقف القوى الأخرى، أثبت أن حزب الله قد نجح في تحصين نفسه وتقوية مناعته الداخلية. وقد غدا التجاوب مع الطروحات الأميركية أمراً عسيراً لبنانياً، بخلاف ما كان الوضع عليه سابقاً. حتى القوات اللبنانية، التي لطالما كان يتهمها حزب الله بالعمالة الأميركية، والالتزام بالإملاءات، لم تساير بومبيو. فكان الدكتور سمير جعجع واضحاً في المطالعة التي قدّمها أمام الوزير الأميركي. أولاً، في ما يتعلق بالوضع اللبناني. وثانياً، في ما يتعلقّ بالوضع العربي، ما بين سوريا وفلسطين. وثالثاً، في ما يتعلق بالوضع الإيراني.
لم تكن صدفة أن تخرج النائبة ستريدا جعجع بتغريدة تدين فيها الخطوة الأميركية بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، بعد ساعات على اللقاء مع بومبيو. وهذه إشارة تدلّ إلى فحوى المطالعة التي قدّمها جعجع. وتعتبر أن المواقف والسياسات الأميركية تجاه العرب والفلسطينيين تخدم وجهة النظر الإيرانية، وتعزز منطق التصعيد الإيراني الشعبوي. كما أن السياسات الأميركية تجاه سوريا تعزز غلبة إيران بشكل أو بآخر، وتستفيد من إحباط المناهضين لها، الذين يفقدون أي حيلة لديهم، فلا يجدون سوى التطرف طريقاً يسلكونها. وهذا التطرف من شأنه أن يعزز التطرف الإيراني. النظرة الواقعية التي اتسم بها جعجع إقليمياً، هي نفسها التي انطلق منها في مقاربته اللبنانية حيال التعاطي الأميركي مع حزب الله. ولذلك يعتبر جعجع أنه ليس مضطراً للدخول في معركة سياسية بلا أفق، بينما جميع من راهن على التوافق معه قد طعنوه، وهم يحسّنون علاقاتهم مع الحزب.
تكبير الحجر
خلاصة جولة بومبيو، وما قابلها من مواقف لبنانية موحدة، اقتصادياً من قبل الحريري، وفي ملف اللجوء وحزب الله من قبل عون، إلى جانب موقف برّي من ترسيم الحدود البرية والبحرية، ورفض تقديم أي تنازل.. كلها تثبت أن حزب الله استطاع تحقيق ما يريد،. وهو لم يكن يريد أكثر من أن لا تلقى المواقف الأميركية أصداءً لبنانية كثيرة، لتبدو الزيارة وكأنها أفرغت من مضمونها من قبل اللبنانيين، من دون أن يبذل الحزب أي جهد، لا بل على العكس، يسهم في تكبير حجر هذه الزيارة، ووضعها في إطار الحرب الكونية المستمرّة عليه.
والأكيد أن المواقف التي أطلقها بومبيو تجاه حزب الله، لن تمرّ بسلاسة عند الحزب، الذي يعرف كيفية الاستفادة من هذا الظرف إلى أقصى الحدود. وهذا ما دفع الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، إلى الردّ على الموقف الأميركي، الذي يصفه حزب الله بأنه كلام كبير ضد فئة من اللبنانيين، محاولاً أن يضع لبنانيين آخرين في مواجهتهم. يعتبر حزب الله أن ما يريده الأميركي هو الذهاب بلبنان إلى حرب أهلية، عبر دعوته إلى مواجهة الحزب. وهذا جانب أساسي سيركز عليه نصر الله في كلمته. لكن الفارق هو الموقف اللبناني الرسمي الموحد، الذي سيكون محطّ إشادة من نصر الله، وإشارة إلى الانتصار الذي حققه الحزب في الداخل.
لبنان بالنسبة إلى حزب الله، تبنّى موقف المقاومة بلا أي مواربة. وكل المواقف أثبت أن لبنان الرسمي يدافع عن المقاومة، بوضوح الكلمات التي اطلقها المسؤولون اللبنانيون أمام بومبيو. ولم ير الحزب أي جديد في الموقف الأميركي، معتبراً أنه لن يكون له أي تداعيات، بمعزل عن العقوبات التي يعمل الأميركي على فرضها حتى من دون المجيء إلى لبنان. كما أن الفشل الأميركي يتجلى بشكل ذريع في ملف ترسيم الحدود البرية والبحرية، خصوصاً بعد إجهاض اللبنانيين لمنطق فرض السير بخطة هوف. حتى محاولات لملمة قوى الرابع عشر من آذار من قبل الأميركيين، لم تلق أي مستوى من التجاوب، ما يعني أن الزيارة ستكون بلا نتائج، بمعزل عن الحرب الإعلامية.
وعد بومبيو للحريري
وأكثر من ذلك، يعتبر الحزب أن القرار الأميركي بما يخص الجولان، هو هدية انتخابية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما أنه يمثّل هدية كبيرة لكل محور الممانعة والمقاومة، بأنه لا يمكن لأميركا أن تكون وسيطاً في عملية السلام، ما يعزز وجهة النظر الإيرانية ووجهة نظر حزب الله، في انتهاج سبيل المقاومة وعدم الرهان على الأميركيين. ثمة من يخلص إلى استنتاج بأن الأميركيين لا يريدون المواجهة في لبنان، كما أن اللبنانيين غير مستعدين لذلك، خصوصاً أن التفاهم بين المستقبل والحزب قائم ومستمرّ، لا سيما أن الأخير غير مستعد للتخلي عن الحريري رئيساً للحكومة، الذي بدوره يسعى إلى توفير الدعم الأميركي. وحسب ما تكشف معلومات متابعة لـ"المدن"، فإن الحريري حصل على وعد من بومبيو بإقناع السعوديين في دعم لبنان مالياً، لمنعه من الإنهيار، لكن بشرط أن يتم إقرار موازنة، وإصلاح الكهرباء، والحصول على قروض من المصارف بصفر فوائد، مقابل فرض ضرائب جديدة على الإيداعات المصرفية. وفيما يهتم اللبنانيون بتحسين الوضع المالي، كان لديهم استنتاج أساسي، هو أن أي اتفاق مع حزب الله، يمكن للبنانيين أن يعقدوه، إنما هو مرهون بتطور العلاقات الأميركية الإيرانية، وهذا ما قد يؤدي إلى تعزيز وضع الحزب أكثر.